نشرت الكاتبة والاستاذة الجامعية رجاء بن سلامة على حسابها في الفيسبوك تدوينة دعت فيها الى مجادلة الاسلاميين بدل كرههم كما دعت الى عقد سياسي مرتكو على دوال ثلاث: الثورة والديمقراطية ودولة القانون.
تابعت بعض التعاليق التي صدرت عقب التدوينة، وبكل صدق هالني ما قرات، اتفهم الحالة النفسية التي عليها أبناء النهضة وأنصارها، ولكنني لا أجد لها منطقا معقولا في أي وجه قلبتها، هي ردود أفعال لأناس مجروحين ... لكن لا يمكن أن يتم بناء صالح بنفوس متوترة.
كتبت بالأمس ان قيادات النهضة القابعين في السجن، وعلى رأسهم الشيخ راشد، لو "استفتوا" في الموقف من العديد من الفرقاء الذين عبروا عن موقف جديد ضد الانقلاب، أو عبروا عن موقف ضد الاستئصال، لرحبوا بذلك ولأثنوا على أصحابه، مهما كانت نوايا أولائك، على فرض أن بعضهم قرر القفز من سفينة الانقلاب عندما شاهد خرقها يتسع، أو تغير موقغه لأنه لحقه أو سيلحقه الأذى الذي توقع انه سيقف عند خصمه، أو حتى انه مكلف بمهمة اختراق قوى الثورة ... مهما كانت هذه النوايا موجودة، فهي بالمنطق لا يمكن ان تنطبق على الجميع ولكنها هي أيضا لا تمنع من استقبال أصحابها والاشتراك معهم في استعادة الديمقراطية وإسقاط الانقلاب ... وليس احدا من أولائك القادة ممن يمكن ان تنعته بالخب ... وإن كانوا بشرا يخطئون ويصيبون.
لندع هذه الحجة التي سيعتبرها البعض وصاية عليه، وبعضهم ربما يقول لي ومن أدراك ومن أين لك ان تجزم بذلك.
كنت كتبت منذ أيام ان تونس لن يحكمها فصيل أو تيار واحد إلا بالحديد والنار، ومع ذلك فليس ذلك متاحا لأي كان إلا بظهير إقليمي أو دولي سياخذ مقابل إسناده شيئا من سيادة البلد وثرواتها. علينا ان نعي ما يعني ذلك من ناحية المبدأ ومن ناحية الواقع ... فهل يبنى على الظلم بنيان وهل يبنى على تسليم السيادة والثروات للغير بنيان؟
صحيح ان هناك استقطابا حادا تشكل منذ السبعينات، وان ذلك الاستقطاب بني في مناخ الحرب الباردة وحروب الايديولوجيات القصووية، والاخطر فيه انه لم يشكل فقط وعي النخبة، وإنما شكل أيضا مشاعرها واحاسيسها وتحول كل ذلك إلى قناعات بل وعقائد راسخة. وهذا للإنصاف مشترك بين الجميع، ولا معنى لأن يستثني الاسلاميون انفسهم منه ... وللإنصاف أيضا علينا ان نقول أن توجس الآخرين أشد، لأن سلاح الإسلاميين كان عقائديا، قائما على التكفير وإن لم يتم بالتعيين الفردي فهو بالمجموع. ورغم إدراك الإسلاميين منذ النصف الثاني من السبعينات وخاصة بعد أحداث جانفي 78، عدم صوابية جعل التصنيف العقائدي هو الأساس، إلا أنه استمر يغذي مشاعر الاسلاميين وردود أفعالهم. كما زادته أحداث التصادم والتصارع خاصة في الجامعة وفي مجالات كثيرة في الحياة العامة، زادته تلك الأحداث عمقا ورسخت في النفوس مشاعر العداوة والكره بين الطرفين.
تستطيع ان تبرئ نفسك من خلال الإعتماد على مواقفك العلنية، ولكنك لا تستطيع ان تمنع غيرك من " تتبع عوراتك" في الخطاب الدعوي أو التنظيمي أو في لحن القول أو في فلتات اللسان.
لذلك رأيت ما كتبته رجاء بن سلامة مهما جدا واعترافا جريئا لا زال الكثير منا يجد صعوبة في إعلانه . فقد قالت ربما بعفوية - واصدق الكلام ما كان عفويا: "أننا دفعنا غاليا ثمن كره الاسلاميين بدل مجادلتهم ومصارعتهم"
وهو نفس الموقف الذي عبر عنه محمد الازهر العكرمي عندما خرج من السجن وتحدث عن الشيخ راشد معبرا عن موقفه الجديد بانه شفي من مشاعر الكره والاقصاء.
وهي عبارات تنطبق على طبيعة الصراع الذي توارثته الاجيال مع الماركسيين والقوميبن ومع الدساترة ...
تلك الجملة بالنسبة لي عميقة الدلالة وعميقة الصدق، وكافية ليس فقط للترحيب بالموقف وإنما للتعويل عليها وعلى امثالها في مساعدة الجميع على قطع خطوات نحو "حلف فصول" لن يستثنى منه إلا من أصر على استثناء نفسه.
لا أنتظر من رجاء بن سلامة ان تتخلى عن افكارها، وحسنا فعلت انها ذكرت بذلك، وليس معقولا ولا مفيدا ولا ممكنا ان تطلب من خصمك ان يصبح شبيهك أو مثيلك ... يكفي ان يجمعنا الاتفاق على الدوال الثلاث كما قالت: "الثورة (بحريتها وكرامتها) والديمقراطية ودولة القانون".
اعرف أننا جميعا بدون استثناء - وأنا ضمن ذلك الجمع - تنفلت السنتنا وتند أقلامنا ويتحرك "المدفون" في لاوعينا فنستدعي ماضي الكره والتكفير الديني أو السياسي (لا فرق بينهما في المحصلة) ... والفتن نائمة وليست ميتة ...
ليس امامنا إلا طريق العيش المشترك وتكثير سواد المنطقة الوسطى ودون الحلم بفراغ الاطراف فللأطراف دورها في ديناميات المجتمع. ويكفي ان يضع كل طرف نفسه مكان الطرف الآخر كي نتفهم بعضنا ونخفف من حجم الخوف المتبادل بيننا ونتوافق على أرضية عقد سياسي كما دعت إليه رجاء بن سلامة.
إنني أقول لأصدقائي وإخوتي المجروحين ... كلنا عند الانقلاب سواء ولا تعصمنا إلا قدرتنا بناء مشترك لن يلغي الاختلاف بيننا ولكنه ينظمه ويزيل من الطريق وهم التغول أو الاستنجاد بالدخيل ويقبل التطور الطبيعي للمجتمع في نمطه المجتمعي ولا يسقط عليه ما لا يتشربه في مناخ من الحرية التامة كما لا يفرض عليه المحافظة على القيم الميتة بسلاح التكفير والهرطقة ....
سيقول كثيرون: يا شيخ يزينا من المواعظ.
و أجيبهم بما سطره القرآن:"قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تتفكروا.
تاريخ أول نشر 2025/5/4