يوم 28 اوت 1982 هو زمن لا يمكن ان ننساه..باخرة التهجير القسري ترسو في ميناء بنزرت ..وقادة الثورة الفلسطينية يرسو بهم القدر على ارض تونس بعد مفاوضات مكوكية قادها المبعوث الاممي للأمم المتحدة فليب حبيب لاخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في اعقاب حرب دموية غاشمة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني.باتفاق مع بورقيبة الذي لم يكن من زعماء الالتزام القومي والعربي ولكنه كان بحاجة الى عوطف القضية الوطنية الفلسطينية العربية للتاغطية على ما دشنه من زمن جديد لحلقات القهر والاضطهاد السياسي والاجتماعي لحركة الاتجاه الإسلامي.
كنا 17 سجينا من مناضلي حركة الاتجاه الإسلامي محشورين في زنزانة ببرج الرومي في اعلى نقطة في افريقيا بجبل الناظور في شمال المدينة الهادئة والمكافحة بنزرت الرابضة على ضفاف جنوب البحر الأبيض المتوسط الذي اتصلت مياهه منذ الأزمنة الغابرة للتاريخ والجغرافيا بمياه بيروت الشهيدة المكلومة في شرق المتوسط..
كنا محشورين في زنزانة علت جدرانها الاتربة مختلطة باللون الأزرق الفاقع نتابع على شاشة تلفزيون بالأبيض والأسود وبخليط من الغربة السجنية والانشداه والانجذاب العاطفي هذا المشهد التراجيدي للعجز العربي والدولي عن التزام العدل في انصاف الشعب المنتزع من حقه وارضه في فلسطين. كان الاطار صاغطا بكل المقاييس حرارة الجو التي فاقت ال42 درجة وحرارة الاحداث التي خلطت العرق المتصبب من الجباه بالدموع . امام علم لتونس توسط الغرفة بفخر يتدلى تحت رافعة التلفزيون رمز العزة الوطنية ودم الشهداء الأحمر والشهادة والنجمة والهلال. وعلى وقع قصيدة لمحمود درويش النازل بحقيبة المسافر الابدي من الباخرة والتي يقول فيها ردا على ما مورس على الفلسطينييين من ضغوط أمريكية وإسرائيلية لاكراههم على التسرانسفير:
وكان الكل يتابعون تفاصيل المأساة التي حلت بأكناف المسجد الأقصى..
الفلسطينيون ينزلون تباعا من الباخرة من وراء قضبان متحركة تحول بينهم وبين الحق الوطني ولكنهم يلقون استقبال الجماهير الشعبية التونسية المتضامنة التي التحقت بالميناء وكان الفلسطينيون النازلون من سلالم الباخرة يلقون ونلقى معهم في ذلك الحماس العارم لشعب المستقبلين بعض العزاء. انه عزاء الهم الواحد والوطن الواحد المشلول والمحتل.
كنا قد انهينا فترتنا الصباحية من اوراد قرانية ومدارسة سياسية وفكرية ونقاش ونشيد نخترق به بعض الوحشة ونحرك الحياة اليومية في محيط ما انحشرنا فيه من حصار السجن .
نراقب من وراء القضبان ما يجري من حصار للوطن. كانت للشيخ راشد الغنوشي منضدة بالية جلس اليها يقلب أوراقه ويمسح دموعا خضبت لحيته وطفق يسجل خواطر واراء وملاحظات اللحظة الحارقة وداوم على ذلك أياما تمخضت عن كتاب هو مؤلفه الأول حول القضية الوطنية الفلسطينية تحت عنوان القضية الفلسطينية على مفترق طريقين طريق التحرر والتحرير للأرض الفلسطينية والمسجد الأقصى والشعب الأسير او طريق التسوية المؤدي للتصفية. وهو استشراف مبكر لما حصل للقضية الفلسطينية وبعض قادتها من استدراج نحو مفاوضات أوسلو للتسوية ضمن ما سمي بخيار غزة اريحا أولا والتي أدت الى تصفية القضية ردحا من الزمن الى ان تفجرت الانتفاضات صراخا ومظاهرات وأطفال حجارة ومقاومة انطلقت من عمق المعاناة والدمار الذي طال المدن والقرى والحارات والاشلاء والدماء ..ولم يتوقف هديرها الى ان انفجرت طوفانا للاقصى.
لم يكن ما حبره الشيخ راشد الغنوشي امام منضدته وتحت ضوء الشمعة اناء الليل واطراف النهار شانا شخصيا او سريا وانما كان يشارك اخوانه في النقاش والمجادلة والسجال حول احداث القضية واطوارها رغم ما يشغلنا حول اطوار قضيتنا خلال اول صدام لنا مع السجون بعد اول محاكمة شملت الحركة في صائفة 1981م.وكانت حوارات الشيخ راشد مع رفاقه استيعابية وليست عرضية اذ كان يسجل الآراء والافكار والانطباعات ويمضي في صياغتها بعقل الملتزم المسؤول والحكيم صياغة إشكالية وجدلية حاولت ربط التأليف النظري بسياقات الممارسة الكفاحية للقضية الفلسطينية وعلاقتها يالقضايا الوطنية والقومية رغم انعدام المراجع والمستندات داخل زنزانة علتها الرطوبة وتقطع صمتها الرهيب أمواج البحر المتلاطم التي تتناهي الى اسماعنا معاندة صخور الجبل شاهدة على باخرة الترانسفير الغاشم التي كانت تملأ الارجاء.
سال ماء كثير تحت الجسر - كما يقول الروائيون - بعد اللجوء الفلسطيني من الوطن الى الوطن وكأنهم يعيدون اسطورة عليسة وتغريبة اميلكار وحنبعل ويوغرطة وماسينيسا وفتوح عقبة والعبادلة وابن سرح والزبير وابن النعمان.
ولم يستنكف الكيان الصهيوني من مطاردة القضية وقادتها الى تونس فنفذ غارته الغادرة على الناس الامنين في حمام الشط سنة1985 وامتدت اليد الاجرامية بالاغتيال سنة 1988 لتطال قادة الصف القيادي الفلسطيني الأول انئذ أبو جهاد / خليل الوزير وأبو اياد وهايل عبد الحميد ومهندس المقاومة التونسي محمد الزواري حتى تنحشر القضية تدريجيا في مسالك أوسلو وزراديبها الضيقة.
ولم تتوان حركة الاتجاه الإسلامي أولا وحركة النهضة تاليا في كل مراحل القضية واطوارها من استنهاض همم المواطنين والوطنيين للوقوف جنبا الى جنب والالتزام بالحق الوطني المشروع للشعب الفلسطيني في التحرير للارض والعودة للمهجرين وفتح أبواب العاصمة التاريخية السياسية والروحية القدس الشريف والمسجد الأقصى موطن الاسراء ومعبر المعراج.وفي حكومة الثورة سجلت النهضة اول استقبال ديبلوماسي رسمي لقادة حماس والمقاومة واوفدت لجنة رسمية تونسية براسة وزير خارجيتها لزيارة قطاع غزة والاطلاع عن كثب على أوضاع الفلسطينيين في الأرض المحتلة.
وجرت الاحداث مصدقة ما حبره الغنوشي في كتابه حول فلسطين باعتبارها محور الصراع الدولي والحضاري، بما يجعلها قضية مركزية وخطا متقدما في الصراع لمواجهة الإمبريالية والكولونيا لية وعملائها، وتكتيل كل القوى الثورية وتوحيدها من اجل البناء الحضاري الإسلامي الجديد".
الترانسفير جريمة حرب تكررت كثيرا في تاريخ فلسطين وملاحم شعوب الامة المسلمين وفي تاريخ الاضطهاد الهمجي لليهود.وفضلا عمن ممارسات الستالينية في حق الشعوب الإسلامية السوفياتة من ترانسفير قسري وتهجير من اوطانهم.
روى المؤرخون عن السبي البابلي الأول كما ورد في الاخباريات و الاساطير من طرد الملك البابلي نبوخذ نصر الأول والثاني لليهود مرتين من ممالك كانوا يحكمونها وتهجيرهم الى بابل في العراق بعد معركة كركميش سنوات 605 قبل الميلاد. ولئن تعرض اليهود زمن التوحش النازي الى محارق الهولوكست والترانسفير التهجيري الى الشتات بهدف دفعهم للاندراج في المخطط الصهيوني العالمي بالاستيطان في فلسطين، فان ما مارسه الكيان الصهيوني من تهجير وترانسفير قسري في حق الفلسطينيين المرابطين الأصليين في اكناف بيت المقدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين لا يقل جرما ولا وحشية عما ارتكبه النازيون في حق اليهود.
منذ اغتصاب الصهاينة للارض الفلسطينية وانتزاع شعبها العربي المسلم ونظرائه المسيحيين نساء ورجالا واطفالا ورميهم في العراء بعيدا عن مزارعهم وقراهم واحيائهم وبيوتهم في سنوات 1948 و1967 وفي مرج الزهور سنة 1993ذاق أبناء الوطن المحتل الويلات من الابعاد والتهجير والترانسفير القسري.
وسجلت القضية الوطنية الفلسطينية نقلة جديدة حين استقلت بقرارها وادخلت حركة حماس وفصائل الإسلام السياسي واليسار الوطني تقاليد جديدة في الممارسة النضالية اليومية أحدثت قطيعة مع أوهام اتفاقية أوسلو ومتاهاتها. ذلك بعد ان لاحظوا نتائج ما حصل من تهجير توزعت بسببه عوائل أبناء الشعب الواحد في دول الشتات العربي والدولي. ولكن الأكيد ان تاريخ 7 أكتوبر 2023 وطوفان الأقصى كان لحظة فارقة ونقلة مفصلية سجلت منعرجا في تاريخ البشرية سيكون له ما بعده دون ريب او جدال رغم ما يكتنف ذلك من ازمنة مثقلة بالعوائق والنكوص عن وحدة الشعوب وحق تقرير المصير و غلية النزعة الشوفينية ورفض التعدد والاتلاف وعدم التسليم بالوحدة الإنسانية للجنس البشري و الايغال في تكريس ازدواجية المعايير والتطهير العرقي والكيل بمكيالين. .
ما اشبه الليلة بالبارحة، هل هو الجمود والسلبية والدغمائية التي رانت على وطننا من جديد.
ابواب برج الرومي تحولت الى أبواب سجن المرناقية بالعاصمة التونسية و عوض الترانسفير البري الترانسفير البحري وتحول نزلاء الترانسفير السجني الى نزلاء جدد هم قادة الحركة الديمقراطية بأجنحتها الوطنية الإسلامية النهضوية منها والاشتراكية والليبرالية..
الشيخ راشد الغنوشي رئيس البرلمان وعلي العريض وعصام الشابي ونورالدين البحيري واحمد المشرقي والبشير العكرمي وراشد الخياري ووليد جلاد وعبد الحميد الجلاصي والحبيب اللوز وجوهر بن مبارك وشيما عيسى وغازي الشواشي وسيف الدين مخلوف وخيام التركي ومحمد بن سالم وعلي اللافي وخيام التركي ورضا بالحاج وغيرهم وغيرهم كثير. كل واحد منهم يحمل بين جنبيه حلما وفي شغاف قلبه حبا لعائلة وزوجات وحبيبات وأطفال أبناء وبنات ابعدهم السجن عنهم وفرق البوليس بينهم وبين اشواقهم وتطلعاتهم في اعز اللحظات والمواسم سواء ما تعلق منها بليلة القدر من شهر رمضان الفضيل او عيد الفطر وعيد الأضحى المبارك واعياد الثورة المجيدة التي الجمت زغاريدها واصواتها ونكست راياتها .
يقف جميعهم وراء القضبان في السنوات الأولى من العقد الثالث للقرن الواحد والعشرين وفي السنة الثانية عشرة من ثورة الحرية والكرامة المجيدة يتناهى لاسماعهم ازيز المنعرج التاريخي لطوفان الأقصى المضمخ بدماء الأطفال وصراخ الارامل والثكالى فتتقطع اوصال نزلاء المرناقية وتهتز قلوبهم الى الحناجر ولا يجدون سبيلا لمناصرة قضيتهم المركزية فقد شملهم جدار غزة في لحظة لم يتوقعوها واحاط بهم حصار فلسطين. وحيل بينهم وبين الوطن والاحبة والاهلين.
وما عزاء الغريب في سجون الأوطان للغريب في سجون المستعمرات سوى دموع الرحمة وصلابة الإرادة وتصميم الفعل ووحدة الموقف والدعاء في زمن صارت فيه الحركة الديمقراطية والمسارات الشرعية للثورة تهمة يسمونها تامرا على امن الدولة ويتخيرون لها احكاما على المقاس عسى ان تثني الإرادة وتفكك الوحدة الوطنية وتلجم الكلمة الحرة والاعلام والتعبير وترد الثوة على اعقابها. وتستديم امارة السلطان. وبقهر اسلام الوطنية والاعتدال الديمقراطي تفتح المجال واسعا لتفريخ وحشية الدواعش وجمهوريتهم المزعومة Republique fantoche .المعادية لاسلام الامة والوطن والشعب وديمقراطيته. ولكن هيهات فكل من فرق بعد اليوم بين مهام التحرر الوطني ومهام التحرر الاجتماعي والديمقراطي انما هو واقع في مطبات قصر النظر والعمى الاستراتيجي ووهم التعالم الثقفوتي المؤدي راسا الى الهزائم والمصائب والانهيار.
لكن كم يلزم من أوسلو وكم يلزم من قدس محترقة وكم يلزم من الرداءة والظلامية والخراب كم يلزم من الشهداء ومن أصوات محمد البوعزيزي ورضا بوزيان الصارخة في مدى الأبدية والخلود حتى يوقن المراقبون والفاعلون الاستراتيجيون ان زمنا للتحولات الفاصلة غير الكلاسيكية قد اقترب، اقترب زمن الموجات المتجددة للثورات.