أنا من قلت أكثر من مرة أن علاقة الشيخ بالنخبة تتلخص في المثل التونسي "لا نحبك ولا نصبر على فراقك"، وكتبت ذلك أخيرا في مجموعتنا هذه.
وهذه الآن مناسبة كي أطرح بما يسمح به المجال شرحا لذلك بمناسبة المقترحات التي تناقش داخل حزب حركة النهضة حول الهيكلة وخاصة تلك التي تدور حول الشخص الثاني في الحركة "نائبا" أو "أمينا عاما" أو "مديرا تنفيذيا".
والنخبة هنا ليست تكتلا متجانسا، وإنما هي دوائر متحركة تمثل مراكز الثقل العملي في الحركة، و هي أساسا السياسي والتنظيمي والدعوي والاجتماعي والفكري، ودون أن يعني أن أشخاص تلك الدوائر متجانسون ومتفقون ومتوحدون، ذلك أن نخبة الحركة لا تختلف من حيث الجوهر على عموم النخبة التونسية، التي يؤمن أفرادها بذواتهم أكثرمن إيمانهم بالمجموعة، و ينفرون من العمل بروح فريق العمل والجماعية، بدواعي ظاهرها النفور من التكتل الذي يهدد وحدة الكيان، و باطنها الإيمان النرجسي بأن الأمر لو أتيح له كشخص ومالت به الرياح إليه و"فاز بالقرب من الشيخ"، لجاء بما لم تأت به الأوائل. فالمشكل عنده ليس في الشيخ وإنما في المحيطين به والذين هم عنده إما ضعيفي المستوى والخبرة أو ضعيفي القدرة والإرادة.
أصل الأصول
أصل أصول التدافع أن النخبة لم تستقبل بالقبول والارتياح "انعطافة" الشيخ الفكرية منذ سنة 79. واستقبلت بحذر أفكاره "الجديدة" على المستوى السياسي والاجتماعي و"قراءاته" التاريخية .
ففي النقد التاريخي كتب مشيدا بالمعتزلة "ولولا أن قيض الله واصلا...."، وغالب افتتاحيات المعرفة كانت تعبر عن غليان فكري جديد ومواقف سياسية تتحدى المعطى العقائدي بالمنظور السلفي الإخواني (الثورة الإيرانية ... ). وفي المسألة الاجتماعية كانت قضايا المرأة والعمال تحريك لسواكن المنظومة التقليدية. ثم كان "الإعلان" وما جاء به من تحول يشبه الانقلاب في المسألة السياسية ( الحزبية ، التعددية ، القانونية ، الحرية ، الديمقراطية .....).
وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه "اندفاعات" الشيخ واستعداده المفتوح لتركيب وإعادة تركيب البنى الفكرية في كل هذه القضايا بعقل جدلي حجاجي وفي سيولة فكرية عجيبة، ضلت النخبة على توجسها وحذرها.
ولذلك فأنت لن تجد نصا رسميا للحركة لا داخليا ولا خارجيا تضمن تلك الأفكار وخاصة تفاصيلها الا وهو مقيد من خلال صياغة محكمة، إذا انفلت بعضها فقد "سمح به" لأجل الضرورة.
وقد كان وضع الاستثناء الذي عاشته الحركة من المواجهات والسرية والسجون، هو الذي سمح لأفكار الشيخ أن تجد طريقها على هامش الإطار الرسمي لخطاب الحركة. إضافة إلى أن النخبة كانت في عمومها "شفهية" المضمون ولا تقرأ، وكانت أبعد من أن تنافس رجلا تعد الكتابة والقراءة جزء من شخصيته.
ولا زلت أذكر ردود الفعل التي حدثت في أوساط النخبة من حوار الشيخ لمجلة "جون أفريك بلوس"، والتي وصلت بالصحبي عتيق بأن يحتج على أبناء الحركة في كلية الشريعة على تعليق الحوار في الساحة ودعاهم أو قام هو بنفسه بنزع الحوار، في نفس الوقت الذي قام فيه علي العريض بإجراء حوار مع جريدة "لوطون" كرد غير مباشر على الحوار ولكنه مني بردود فعل سلبية تجاهه.
أعود لأقول إن هذا التدافع لا يزال مستمرا، ولم تعمل الحركة في يوم من الأيام على أن توفر مساحة للحوار الجدي والفاعل والمنتج في هذه القضايا، برغم البدايات التي تبدأ واعدة مثالية ثم تنطفئ جذوتها وتتحول من "ملوخية" تقتضي نارا هادئا ووقتا أطول الى "شاطر ومشطور وبينهما كامخ".
الأداء الإداري للشيخ
انتشر مبكرا بين أوساط نخبة الحركة نقدا للأداء الإداري للشيخ وتشكيا من عدم اهتمامه بالمقتضيات التنظيمية.
ورغم أن الشيخ عادة ما يوكل تلك المهام لأصحابها ضمن الهيكلة الموجودة، الإ أن التشكي لم ينقطع لأن الصلاحيات الموكلة قانونا للشيخ تقتضي أن يولي المسألة الإدارية أهمية أكبر وأن يعطي للمأسسة موقعها الضروري. وقد ازداد هذا التشكي خلال المحنة الأخيرة وتضاعف بعد الثورة.
تلاحظ النخبة أن الشيخ يصدر في الأمر عن قناعته التي عبر عنها كثيرا، من إيمانه بأن "الرأس واحد" وأن "المسؤول واحد" وأنه هو من يختار أو يفوض، وهو من يطلب المشورة وله حق قبول العمل بها أو اختيار غيرها . هذه قناعة عند الشيخ ضمنها في كتابه "الحريات العامة" وكتبها في نصوص كثيرة ومن أهمها نص كتبه في التعليق على تقييم 94 بشكل لا يدع مجالا لأي شك أو تأويل وإن كان يدعو للعجب.
يبدو الشيخ غير مقنع في دعواه استثناء الحركات والأحزاب مما يدع إليه من الفصل بين السلطات ومن إلزامية الشورى ومن التداول على السلطة وغير ذلك من قيم الديمقراطية التي عد من رموز الداعين لها في الوسط الاسلامي. ولكن تلك حقيقة الأمر ولا يجد الشيخ للدفاع عن موقفه ورفع الالتباس غير التذرع بأنه ربما لم يكن قادرا على تبليغ موقفه.
وإذا جاز لي أن أقرأ الأمر قراءة نفسية من أجل البحث عن عذر للشيخ، فإنني أقول أن وضوح مشروع الحركة في ذهنه، وإحساسه بأن المشروع هو"ابنه" الذي أنجبه ورباه ورعاه .... ومن يسلم فلذة كبده لغيره ؟ خاصة إذا رأى أن ذلك "الغير" هم نخبة دونه بكثير وربما لا معنى لهم بدونه !!!
لا ننسى أن الشيخ قد عاش في زمن "الزعماء" بل وخاصمهم طويلا، فهل يصدق عليه قول فرويد: "إنك لا تخاصم شخصا زمنا طويلا إلا شابهته" ؟
دور البطانة
تلاحظ النخبة أيضا أن الشيخ يميل إلى استصفاء الأقرباء والأصدقاء، ومنهم من هم من خارج الحركة. ويبدو جليا تأثيرهم الذي يكبر مع الوقت على حساب المؤسسات وخاصة "قيادات المؤسسات" .
وهي ظاهرة إنسانية وليس الإسلاميون بمنأى عنها. وهي من الحيل التي تستعملها النفس البشرية للإستقواء بها، ومن الأساليب التي يستعملها بعض أفراد المجتمع للوصول إلى السلطة من الباب الخلفي.
كما أن الانسان ينزع بطبعه عندما يطول به العمر لقرابته يستأمنهم على نفسه، حين تخاطبه أغواره النفسية بأنه لم يعد ذلك الذي كان، وأنه يحتاج إلى أن يأوي لركن شديد. و يلتقي ذلك مع رغبات الأقارب في أن يحتموا ويحموا.
هذه كلها ظواهر إنسانية تحصل بالطبيعة وتختلف حدتها من شخص إلى آخر ومن وسط إلى آخر.
والانسانية في صراعها الطويل لمقاومة الاستبداد ابتدعت أساليب عديدة للحد من تأثير مثل هذه الظواهر ومقاومتها لعل أهمها " التداول على السلطة".
مسؤولية النخبة
ذكرت ملاحظات النخبة على الشيخ، ولكنني ضمنتها بشكل أو بآخر ملاحظات الشيخ على النخبة. والنخبة إن كانت من أولائك الذين صاحبوا الشيخ مصارعا للزعماء، فعليهم أن يدركوا أنهم هم من صنعوا منه زعيما، وعليهم أن يتفهموا ذلك وأن يتحملوا مسؤوليتهم في ذلك. وإن كانت من أولائك الذين عاصروا سقوط الزعماء، وسقوط فكرة الرجل الأوحد والمنقذ، فعليهم أن يدركوا أنهم أسقطوا كل ذلك بزعيم جديد يحمل معه إرث الزعماء، وليس بفكر جديد ومنظور جديد للقيادة والإدارة. وأن أمامهم مسيرة أخرى سيقطعونها مع ما تبقى من عمر "الزعيم" أطال الله في عمره، ومع "الزعماء الصغار" الذين يطلون برؤوسهم، ولكن في خريف عمر"الزعامة" وانبلاج فجر "الجماعية والمأسسة" والقيادة بمفهومها المعاصر. .
في ظل ما ذكرت نستطيع أن نمسك بسهولة ويسر فيما أحسب بمفتاح النقاش المذكور، ونخرج من فخ الظاهر إلى تناول عمق الموضوع: الشورى الملزمة، الجماعية، التشاركية، المأسسة، الإدارة الحديثة، الشفافية، حق المعلومة بل وواجب الحصول عليها، حق الحوار بل وواجب فرضه...