ونحن نعد لذكرى وفاته الأولى حرص الأخ لطفي السعيداوي أن نجمع شهادات من زملائه الأوائل في منزل بورقيبة ليحدثونا عن بدايات التزامه الاسلامي وعن شخصيته وكيف تطورت ... عبد الرؤوف سليل جبال تالة الشم وتاريخ مدينة ورثت النضال كابرا عن كابر ... ارتحل أهله مبكرا إلى منزل بورقيبة وهناك في معهد بورقيبة كان "الانقلاب" في حياة وشخصية عبد الرؤوف ... وبين معهدها ومسجدها قدت شخصيته النفسية والثقافية ... في مدينة صناعية كان قد ترك فيها الفرنسيون أثرا بارزا في مظاهر الحياة المعيشية والعمرانية والثقافية واستمرت كمدينة صناعية جاذبة للعمل والعمال خاصة في مصنع الفولاذ.
منذ بداية التزامه كشف عبد الرؤوف عن شخصية جادة ومثابرة ... تلك الشخصية التي لمحها الشيخ راشد الذي كان يزورهم من حين لآخر للقيام بدروس تربوية ومرافقة النشاط التلمذي الاسلامي الذي بدأ في التمدد بشكل لافت.
وخلال مصاحبته للشيخ راشد في سيارته إلى تونس العاصمة توطدت العلاقة أكثر بين الشاب والأستاذ ... فكان التركيز والاهتمام من الشيخ والتطلع والرغبة في التعلم والعمل من التلميذ الذي يعد نفسه لولوج الجامعة التونسية السنة الجامعية 75/76.
ثم كانت سنوات الجامعة نقلة نوعية لعبد الرؤوف تكوينا نظريا وممارسة عملية صعدته شيئا فشيئا إلى قيادة الفصيل الطلابي بالجامعة التونسية في السنة الجامعية 77\78.
صادفت قيادة عبد الرؤوف للجامعة السنوات المفصلية في تاريخ الحركة الاسلامية من خلال الأحداث الكبرى. ففي تونس كان إضراب 26 جانفي 1978، وفي العالم كان انتصار الثورة الإيرانية 79 دون أن ننسى الثورة الأفغانية والثورة السورية وانطلاق الحملة الاعلامية على الحركة خريف 79. ثم كانت سنة 1980 والهجوم المسلح على قفصة وانكشاف 5 ديسمبر 1980 الذي تم خلاله تعرف النظام على الحركة تنظيما وهياكل وقيادات.
حمل ذلك الحادث عبد الرؤوف البولعابي لقيادة الحركة إثر قرار مجلس الشورى حل مؤسستها الشورية وتكليف قيادة مؤقتة تعد إلى مؤتمر استثنائي في غضون 3 أشهر.
وتولى عبد الرؤوف قيادة الحركة وفي نفس الوقت قيادة الجامعة. و اتخذ هو ورفاقه قرارا بتحريك القطاع التلمذي والطلابي من أجل إرباك النظام وجعله يصرف النظر عن موضوع الحركة في رؤية مشبعة بالإيمان بالخيار الثوري. وعاشت تونس 3 أشهر ساخنة توجتها مسيرة 18 فيفري الشهيرة. وتواصل الحراك والنضال الطلابي حتى حادثة احتجاز عميد كلية العلوم المرحوم علي الحيلي الذي وقف موقفا مشرفا مع الطلاب برغم تلك الحادثة وما قام به النظام لاستغلالها لتشويه الحركة.
مع تصاعد الأحداث اضطر عبد الرؤوف والقيادة الطلابية للاختفاء ثم الهجرة للمنفى الذي بقي فيه الى سنة 2011 سنة ثورة الحرية والكرامة.
كل الذين عملوا مع عبد الرؤوف وتحت إمرته يشهدون له بالقدرة التسييرية وبالوعي الكبير وإليه، يرجع الفضل ليس فقط للاهتمام بالمسألة السياسية، ولكن أيضا بالمسألة الثقافية في كل مجالاتها الفكرية والفنية. وقد ساهم في كل ذلك من موقعه كمشرف على الجامعة وكعضو في القيادة التنفيذية للحركة.
في المنفى التفت عبد الرؤوف إلى العلم والبحث ليستدرك زاده الأكاديمي، وحول تخصصه من العلوم الصحيحة التي كان يتابعها في تونس إلى العلوم الانسانية وفي تخصص علم الاجتماع، لينتهي به المسار الأكاديمي بنيل شهادة الدكتوراه في " شرعية السلطة في التقليد الاسلامي" تحت إشراف الأستاذ دومينيك سوردال وتم طبعها بعد ذلك.
كما أشرف على إدارة المعهد العالي للعلوم الإسلامية بباريس.
واصل عبد الرؤوف البولعابي دوره كقيادي في الحركة خاصة منذ سنة 1987 في وظائف قيادية متعددة رئيسا لمجلس الشورى أو عضوا فيه أو رئيسا للمكتب السياسي أو غير ذلك من المهام التي استلمها كما هي عادته بكل ما تقتضيه المسؤولية من جدية وإخلاص وتفان وتنكر للذات حتى أصيب بالمرض العضال الذي أقعده عن الفعل دون أن يقعده عن التأمل والتفكير والنصح حتى آخر أيامه. كان يحمل هم أمته لا يلقيه عن كاهله بليل أو نهار.
كان أول ما التقيته في شهر جانفي (يناير) 1989 وأنا كلي شوق لملاقاة شخص ملأ السمع والبصر ووصل حتى قريتي النائية على ضفاف الصحراء التونسية. لقيت رجلا هادئ الطبع، يفرض عليك احترامه بنظراته الدافئة وسطا بين الخفض والرفع، وبابتسامة خفيفة آسره لا تفارقه مهما علت الضحكات من حوله.
يحارب الصخب من حوله بهدوئه وأحيانا بصمته المطبق.
دعاني لبيته وهي غرفة من غرف الطلاب في حي "أنتوني" الشهير، أين يقيم مع زوجته وأولاده، وأكرمني بما توفر في بيته من غير تكلف، وحدثني حديث الأخ الكبير مستفسرا عن الوضع في تونس وناصحا وموجها.
ثم كانت لنا لقاءت كثيرة كان فيها عبد الرؤوف قائدا يحترم إخوانه ويقدم رأيه ويقبل رأي غيره ويحاور بأدب جم ويتحمل اندفاع البعض وحرص البعض الآخر ويستوعب غضب هذا وجدال ذلك ... متفهما كل ذلك في إطار اختلاف طبائع البشر ...
كان لعبد الرؤوف رؤيته السياسية التي عركتها التجارب وصقلتها الدراسة الأكاديمية. وأهم ما يلفت النظر فيها هي حرصه على الربط بين السياسة وقاعدتها الثقافية، وأيضا تركيزه على حضور البعد الاستراتيجي في العمل السياسي، مما يجعله أميل إلى البعد عن الخطاب المتشنج والدخول في المعارك التي تفقد التوازن ... ربما كانت بدايته ثورية بالمعنى التقليدي كما كنا نعرف، ولكنه انتهى متوازنا حريصا على حسن الاعداد والتخطيط والبعد عن الارتجال والمغامرة.
لما حدثت بعض إخوانه في منزل بورقيبة على لقائي به، وعلى ظروف عيشه في باريس، رأيتهم يتبادلون النظرات في دهشة ... لقد كانوا ربما ضحية معلومات مضللة أنه كان يعيش في أرغد عيش، بعد أن تركهم خلفه يعانون السجون والمعتقلات ومرارة العيش في دولة الظلم والاستبداد الدستوري والتجمعي ...
هذا عبد الرؤوف البولعابي ... نجم من نجومنا الزاهرة التي أنارت الطريق في عفة وتواضع .. وبذلت وأعطت من دون انتظار جزاء ولا شكر إلا من الذي اخبتت له نفوسهم من أول يوم وضعوا أرجلهم فيه على طريق الأنبياء والمجاهدين والدعاة المصلحين.
أولائك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع