search

في الذكرى 43 للإعلان عن حركة الإتجاه الإسلامي (حركة النهضة)

في استحضار لحظة الإعلان يمكن أن يخفق القلب مستعيدا مشاعرها الممزوجة بالتحدي والتوجس، أو يستثار حنينا لعنفوان البدايات أو قلقا مما تخفيه المآلات. كما يمكن أن يتكلم العقل مستعيدا وعي اللحظة يومئذ والظروف الدافعة إليها والحافة بها أو تأملات الحاضر من خلال الوعي المحمل بمحصول مسارات التجربة وصيرورتها.

وكيفما كان السعي في التعامل مع الذكرى فإن خليطا من كل ما ذكر يظل يفرض نفسه تتفاوت نسب أجزائه بحسب طبيعة كل شخص والمركب المخصوص لمزاجه.

إعلان وليس تأسيس:

تبدأ السردية من العنوان: إعلان ... لم يكن ذلك عفويا بل كان مقصودا. فهي من جهة إعلان لحركة سبق وجودها إعلانها بحوالي عشرية كاملة، حيث تنامت مجتمعيا وتنظيميا ومؤسساتيا سنة بعد أخرى، وهي من ناحية قانونية تأسيسية تشكلت قبل سنتين في صيف 1979، حيث انعقد المؤتمر التأسيسي لما سمي: الجماعة الإسلامية بتونس، في كنف السرية، في إطار نظام ديكتاتوري لا يعترف بالتعددية الحزبية، ويعتمد قانونا للجمعيات مناهضا للمبادئ الديمقراطية في التنظم والتعدد.

وهو إعلان في إطار تمسك بحق المجتمع وحساسياته السياسية والاجتماعية والثقافية في التنظم بالأشكال التي لا تخرج عن الحياة المدنية. ولذلك عندما كانت الحركة تدرس مشروع الإعلان عن نفسها في أيام 9 و10 أفريل 1981 في إطار مؤتمر استثنائي، تزامن مع انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري، وأعلن بورقيبة أنه لا مانع من إنشاء أحزاب بالشروط الأربع التي ذكرها، أصدرت الحركة بيانها المشهور: التعددية حق والجماهير هي المحدد لشروط ممارستها. وهو ما يعني أن الشروط التي وضعها بورقيبة وحزبه ودولته شروط غير مقبولة لأنها مفروضة من غير السلطة الأصلية التي لها وحدها حق وضعها وهي "الجماهير" بلغة البيان أي الشعب. وهو بيان يبطن عدم اعتراف الحركة بالإطار القانوني المفروض من الدولة على الفضاء الحزبي والسياسي يعكس نفسا "ثوريا" متأثرا بالمناخ "الثوري" السائد أنذاك في أوساط المعارضات الراديكالية وشعاره القطيعة السياسية والتنظيمية مع النظام الحاكم، ومتأثرا بالمناخ الذي أوجدته الثورة الإيرانية وبدرجة أقل الثورتين السورية والأفغانية .

لكن الحركة مع ذلك تقدمت بطلب تأشيرة لحزب "حركة الاتجاه الإسلامي بتونس" إلى وزارة الداخلية رغم أنها تدرك أن الشروط التي وضعها بورقيبة ستكون سيفا مسلطا عليها هي بالخصوص.

اختارت الحركة وضع السلطة أمام مسؤولياتها وحشرها في زاوية القامع للحريات والرافض الفعلي للديمقراطية ولتجعل من رفضها حجة عليها.

مقدمات الإعلان:

كانت سنتا 1978 و1979 سنتي الإنعطافة الكبيرة بل الزلزال الكبير الذي خلخل أعمدة البناء الفكري والحركي للجماعة. في السنة الأولى كان يوم 26 جانفي يوما مفصليا كشف ما عدته الحركة غربة عن مجتمعها، وتجلى ذلك في بيانها الأول من الأحداث، الذي تمت مراجعته في بيان ثان صدر باسم جناحها الطلابي في نشرية الأخبار لسان الاتحاد الاسلامي العالمي للمنظمات الطلابية الصادرة بالكويت. صدر البيان بانحياز واضح للاتحاد ولمطالب العمال ومدينا تدخل السلطة القمعي. كان زلزالا حقيقيا صورته الرمزية تلك الرصاصة التي اخترقت جبة الشيخ عبد الفتاح مورو ومنعها مصحف شريف في جيبه من اختراق جسده خلال احداث ذلك اليوم المشهود الذي قتل فيه النظام ما يزيد عن 200 شهيد.

فتحت أحداث جانفي 78 وذيولها ورشة المراجعات للمنظومة الفكرية للحركة، وترجمتها مجلة المعرفة في مقالات ذات نفس جديد، خاصة افتتاحية المجلة بقلم رئيس تحريرها الشيخ راشد. كما نشط الجناح الطلابي في الاهتمام بالمسألة الفكرية والثقافية وتعززت نشاطاته بعد زيارة وفد منه للسودان رفقة رئيس الحركة، حيث استفادوا من التجربة السودانية المتطورة في الحركة والتنظم والفعالية الطلابية.

وكما شتاء 78 كان شتاء 79 لا يقل تأثيرا عنه بانتصار الثورة الإيرانية، التي مثلت زلزالا عالميا، قدم الاسلام في صورة ثورة للمستضعفين، التي أخمدت أو تكاد نيران "الصراع الطبقي الماركسي" الذي مثل لذلك الوقت صوت المحرومين.

استقبلت الحركة التطورات الخارجية كما استقبلت التطورات الداخلية في تونس بإيجابية كبيرة، وباستعداد كبير للمراجعة وإعادة البناء، انعكس على مؤتمرها التأسيسي بالتخلي عن عرض الرؤية الفكرية التي جرى إعدادها لمدة سنتين، معتمدة على الأصول العشرين للإمام البنا مع إضافات محدودة هنا وهناك. كان هناك إدراك أن تلك الرؤية قد تجاوزتها الأحداث، وأنه لا معنى لاعتماد قديم لأوضاع تكاد تجهز على المنظومات العالمية الفكرية والسياسية التي استقرت في ما يمكن تسميته "ابستيمياء الحرب الباردة".

لم يتخذ قرار التخلي عن اعتماد الرؤية الفكرية التي وقع إعدادها بشكل صريح، ولكن تم ذلك بشكل ضمني من خلال عدم عرضها في المؤتمر التأسيسي، وصدور قرار بتكوين مركز دراسات، وهو إجابة غير مباشرة بضرورة إيلاء المسألة الفكرية اهتماما خاصا من أجل ملء الفراغ الفكري، وبناء منظومة فكرية بأبعاد جديدة تأخذ فيها المسألة السياسية والاجتماعية مكانة مركزية، عوضا عن المسألة العقائدية بحمولاتها التقليدية.

كادت الأحداث أن تنزلق نحو مواجهة بين النظام والحركة مع انطلاق حملته الإعلامية التي دشنها الصياح في خريف 79، لولا حادثة قفصة، التي جعلت النظام يغير أولوياته، استغلته الحركة في نشاط فكري وسياسي سمته الأساسية الانفتاح على الأفكار والرؤى درسا وتفاعلا، وعلى التنظيمات السياسية والاجتماعية تعارفا وحوارا وتعاونا.

تصدر الجناح الطلابي الحركة من خلال نشاطه الجامعي المكثف والمتنوع، ومن خلال تأثيثه لبعض المؤسسات المركزية للحركة وخاصة تلك المتعلقة بالجانب الفكري والثقافي. وقد وجد في رئيس الحركة ومبادراته وكتاباته المقتحمة لمجالات تفكير كانت خارج دائرة وعي الجماعة، وجد فيها تشجيعا له على الاقتحام العملي في شكل ندوات وبرامج وأنشطة كانت لوقت ليس ببعيد محل جدال فقهي عقيم، ولتحركات ميدانية استعراضية مبهرة كالتجمعات العامة والمظاهرات والمخيمات.

انكشاف 5 ديسمبر 1980 الذي عجل بالإعلان

استغلت الحركة سنة 1980 في تعميق توجهها الجديد ميدانيا، في موازاة مع جهود أولية لتأسيسه نظريا عبر إعداد خطة لبعث مركز دراسات، مع الشروع في القيام بندوات فكرية في مسجد صاحب الطابع. لكن حادثا عرضيا، تمثل في إيقاف قياديين في الحركة كان بحوزة أحدهم وثائق تكشف تنظيم الحركة وهيكلتها، قلب الأوضاع والأولويات وأحدث إرباكا كبيرا على عمل الحركة.

في ضوء احتمال شن النظام اعتقالات لقيادة الحركة، أصدر مجلس الشورى قرارا بحل نفسه، وتكليف رئيس الحركة بتكليف مشرف الجامعة بتكوين قيادة مؤقتة للحركة والإعداد لمؤتمر استثنائي في غضون 3 أشهر.

اختارت القيادة المؤقتة (وهي طلابية بالأساس) تصعيد الأوضاع في خطة تهدف يحسب تقديرها إلى إلهاء النظام عن الحركة، في انسجام مع رؤيتها في التغيير، القائمة على ما يمكن أن نطلق عليه "الخيار الثوري الجماهيري". لكن تداعيات الأحداث خاصة بعد مظاهرات 18 فيفري الطلابية التلمذية جعلت رئيس الحركة يمسك من جديد بزمام الأمور تجنيبا لانزلاق الأحداث في منعطفات أسوء.

الإعلان بين التكتيك والاستراتيجيا

لئن كانت الحركة تعيش مخاضا فكريا وسياسيا لم تستقر مخرجاته بعد، فإن الانكشاف وما فرضه من ضرورة الإسراع بالحد من تداعياته، وضع الإعلان على بساط التناظر المحموم بين نخبة الحركة.

لم يكن غريبا أن يجد الإعلان الاعتراض من جناحين: جناح الذين ما زالت تهيمن على تفكيرهم الرؤية الإخوانية التقليدية، وجناح الذين تعلقت اندفاعاتهم بالخيار الثوري الجماهيري.

لكن ظلال الانكشاف وما يمكن أن تقدم عليه السلطة، ضيق مساحة تعميق الحوار ودفع الى قرار الإعلان عن الحركة في المؤتمر الإستثنائي.

كان نص مشروع الاعلان يحتوي على مبررات استراتيجية من خلال تأصيل مفاهيم الحرية والتعددية والديمقراطية، وعلى مبررات تكتيكية مرتبطة خاصة بتجنب استهداف الحركة كحركة سرية تعمل في الظلام مما يسهل على النظام إدانتها.

لم يساعد ضغط الانكشاف والخوف من تداعياته على إدارة حوار عميق وهادئ، وفرض على الجميع القبول بالإعلان عن مكتب سياسي وهيئة تأسيسية كواجهة علنية لا غير. وبقيت مؤسسات الحركة التقليدية السرية تعمل بكامل صلاحياتها.

فتح الاعلان على الحركة مسارا جديدا تطلب تجذيره والإقناع به والرد على خصوم الحركة والمشككين فيها وفي فكرها وخيارها باب العمل الفكري والسياسي لبناء سردية متماسكة. ومنذ الندوة الصحفية في الإعلان عن الحركة تقدمت الحركة برؤى ومفاهيم في العمل السياسي وفي العمل السياسي الإسلامي، لفتت انتباه الجميع في الداخل والخارج، مقدمة رؤى وإن كانت تتسم بالعمومية، إلا أنها لا تخلو من جدة وجرأة أثارت اهتمام الجميع بما فيها الحركات الاسلامية التقليدية التي لا زالت أراؤها متحفظة حول العمل السياسي والديمقراطية والتعددية.

وبين إعلان يؤسس لنفسه مقولات ومفاهيم ووعي يتقوى مع الأيام، وخيارات أخرى ظلت تنافح عن نفسها في جسم الحركة وبين نخبتها، استمر العمل بالازدواجية التي لم تبدأ في التقلص إلأ بعد حصول الحركة على التأشيرة بعد الثورة ومشاركتها في الحكم خلال عشرية كاملة.

ورغم أن الاعلان "لم ينضج على نار هادئة"، واستمرت الحركة تناضل تحت القصف 30 عاما، إلأ أن تلك المسيرة على طولها، وعلى قساوة ما نال الحركة فيها، تمسكت فيها بالاعلان ومخرجاته. بل إنها زادته تعميقا وتميزت به بين الحركات الاسلامية. لا بل إنها كانت ملهمة لأغلب الحركات الاسلامية خاصة في محدداته النظرية في الحرية والتعددية وحق الاختلاف والديمقراطية.

ظلت الحركة ثابتة على خياراتها رغم موجات التسلف العاتية، وسطوع نجم الحركات الجهادية. وبقيت عصية على الاختراق الفكري والعملي، وحاصرت بسرعة وبفعالية نزعة الانفلات التي تهددتها في بداية التسعينات، متمسكة بخيارها القائم على الحرية والديمقراطية والمصالحة الوطنية.

وبقدر ما لم تتمكن حركة النهضة من صد قوى الثورة المضادة، ولم تمنع وقوع الانقلاب على الديمقراطية، فإنه يحسب لها أنا أخرت وقوع الانقلاب عشر سنوات كاملة، ويحسب لها أن تجربتها في الحكم كانت مضيئة مقارنة بما قبلها وما بعدها وأخذا بعين الاعتبار تواضع إمكانياتها وكونها تخوض غمار الحكم لأول مرة، كما يحسب لها أنها حافظت على الدولة ورضيت بالتخلي عن الحكم تجنبا للفوضى وقبولا بالتوافق الوطني، ولم تشهد فترة حكمها تضييقا على الحريات، وأن ثلاث سنوات من عمر الإنقلاب وتنقيبه في الملفات لم يثبت عليها وعلى قيادتها إلا ملفات فارغة لا تبعث إلا على السخرية.

لكنها مع جهادها الناصب وبذلها قوافل الشهداء وتحمل أبنائها حربا استئصالية. مع كل ذلك هي مدعوة اليوم بالتأكيد الى عملية محاسبة صارمة لأدائها، وانتقالا قياديا يناسب تحديات المستقبل، وتجديدا في الخيارات الاستراتيجية يستجيب للتحولات العميقة المنتظرة التي ينبئ بها طوفان الأقصى.

تاريخ أول نشر 2024/6/6