يعمد المستفيدون من ريع الدولة وسطوتها إلى تقديسها، لا إيمانا عميقا بها، وإنما استثمارا لما تمنحه لهم من قدرة على فرض ما يريدون من "نمط" حياة، ليس لهم القدرة على إقناع الشعب به، فيرتضونه اختيارا عبر اختيارهم ممثلين له في نظام ديمقراطي قائم على الاختيار الحر ... والشعب ليس فقط لا يقبل "نمطهم" المتنكر لهويته، بل لا يقبل "وصايتهم" وتعاليهم وفهمهم للدولة "الإله" ...
ومن أجل فرض رؤيتهم للدولة، يعمدون إلى شن هجمات ضارية على كل من ينتقدها، ويمارسون تكفيرا سياسيا اشد ضراوة من التكفير الديني لكل من ينقدها أو أحد مؤسساتها ... وفي واقعنا التونسي نجح هؤلاء في حشر الاسلاميين في دائرة "المتهم الابدي" بمعاداة الدولة، لتحقيق هدفين في آن واحد ... هدف جعل أجهزة الدولة متوجسة على الدوام منهم، وهدف جعلهم يبتعدون عن نقد الدولة واجهزتها، خشية إلصاق تهم معاداتها والعمل على تقويضها .... فيحققون بذلك هدفهم الأسمى وهو جعل الدولة حكرا عليهم ...
الحقيقة التي يعمد هؤلاء طمسها، هو ان الدولة الحديثة تعرضت وتتعرض الآن لنقد عميق من طرف اساطنة الغرب، من فقهاء قانون وفلاسفة وعلماء اجتماع ومؤرخين ... ربما لم يهتدوا الآن لبديل عنها، ولكن ذلك لم يمنعهم من نقدها، والبحث عن إمكانية إصلاحها أو عن بديل عنها ... لا تجد في الغرب هذه الهيستيريا في التعامل مع الدولة واجهزتها التي في دولنا ... والتي للأسف يجد أصحابها دعما من الغرب نفسه في إطار المقولة : "الديمقراطية لا تليق بهم ... والدولة الديمقراطية لا تليق بهم ... ولا تليق لنا أيضا لانها لا تحقق مصالحنا فيها باعتبارها منطقة للنهب والسلب لا بديل عنها لانعاش ديمقراطيتنا الداخلية !!!!".
في واقع الحال التونسي ... ليست الدولة صنما كي نعبده من دون الله، وليست اجهزتها اولياء صالحون ما علينا إلا التبرك بهم .... ولا يعني عدم ذلك اننا ندعو لإلغائها وإلغائهم ...
الثورة قامت على نظام كامل الدولة أسه وأجهزتها عماده ... ولا يوجد جهاز من اجهزتها لم يساهم في ما وصلت إليه البلاد ... بل في ما تعانيه البلاد الآن قبل الانقلاب وبعده ... ومن ذلك أجهزتها الصلبة وعلى رأس ذلك الجيش التونسي الذي كان على طول دولة "الاستقلال" مطواعا في يد رأس الدولة ... وهو الذي ساهم بشكل دائم في ممارسة قمع انتفاضات التونسيين الشهيرة بما فيها ثورة الحرية والكرامة ... وهو الذي استجاب لأوامر المنقلب وأغلقت دباباته البرلمان المنتخب ديمقراطيا، وهو المشارك الفعلي في إدارة البلاد بعد الانقلاب داخل قصر قرطاج وفي الجهاز الحكومي ... هذه حقائق ناصعة لا تقبل التعمية ... وكل عملية تغابي وممارسة البوليتيك مع الجيش في هذه النقطة لن تجعله يتراجع عن خياراته، ولن تجعله يقدم نقده الذاتي ... سيستمر في ممارسة مهامه غير الدستورية وغير الديمقراطية، وستتوسع مساحات تأثير واستفادة قياداته الكبرى، كي تلحق بالاوليغارشيات العسكرية الاخرى في البلدان العربية القريبة والبعيدة ... هناك تدحرج خطير يزداد استفحالا للمؤسسة العسكرية، ويبعدها عن مهمتها الدستورية، لن تنفع في إيقافه ممالأتها وتهيبها أو غض الطرف عنها ... هذه نقطة من النقاط التي على جبهة الانقاذ الوطني ان تكون فيها واضحة وغير مترددة ... جيش جمهوري في حدود مهمته الدستورية وإلا فالخراب المقنع ...
تاريخ أول نشر 29/8/2023