يصدم كثير من الاسلاميين خاصة، وحتى غيرهم من المعارضين، حين يقرأون أو يسمعون ما يصدر من الاتهامات التي توجه إليهم، ومن تصديق الرويات عنهم والتي تبدو لهم أنها لا تصدر عن عقل سوي.
الحقيقة أن المعارضة جميعها في تونس تتحرك في مناخ من عدم الثقة القصوى بينها، ما يجعلها لا تستبعد أي اتهام بينها، وتصدق بسهولة كل ما يروى أو يقال ...
وكما أن الاسلاميين يرون في جل خصومهم أعداء يملؤهم الحقد الأعمى، الذي يبرر لهم كل أنواع السلوك العدواني والانتهازي وكل التحالفات ولو القذرة منها، بل وكل وسائل الارباك والإيقاع والإقصاء وقطع الطريق وحتى الاستئصال ...
كذلك فإن بعض أطراف المعارضة ترى في الاسلاميين خطرا جاثما أوداهما، ولذلك فهم يصدقون في حقهم كل ما يشير الى عدوانيتهم وعنفهم وانتهازيتهم السياسية ....
هذا المناخ هو الذي يقف وراء جزء مهم من سلوك السياسيين جميعا، ويفسر ولا يبرر ما وصلت اليه الساحة ...
الاخطر أن ذلك المناخ قد جعل العلاقة لا تستند فقط إلى وقائع مختلقة أو متخيلة او مفبركة او مهولة، وإنما قد جعلها تنبني على "سردية" شكلها كل طرف على الآخر ، يعني مبنية على رؤية إيديولوجية. فلم يعد الموقف من الآخر مرتكزا على أحداث يمكن إخضاعها لمنهج الصدق والخطأ والجرح والتعديل، بل على "قناعات" تحول الموقف إلى إيمان وكفر، سياسي أو ديني، وكيفما كان ذلك الدين، وضعيا كان أو سماويا ...
تلك هي المعضلة التي تختفي معها فاعلية الحجاج والجدل التقليدي، بل إنها تحتاج إلى معاويل، قادرة على الحفر عميقا في الوعي والقناعات، وفي ما ورائهما من اللاوعي والنفسيات.
في هذا المناخ يمتعض بعض الأصدقاء مما يراه من إنكار وتسفيه وتكذيب وتشكيك في التحولات التي تصدر في صفوف هذا الطرف او ذلك، وخاصة مما يبديه بعض اليساريين من خطوات تعتبر إيجابية بالقياس لما كان قبلها، من قبيل الدعوة لتجاوز الاقصاء، أو المطالبة بإطلاق سراح المساجين الاسلاميين وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي.
إذا نظرنا للوضع من الزاوية التي فصلتها أعلاه، فيمكن القول أن ذلك الامتعاض في محله، حيث أن أي خطوة تقطع في اتجاه تضييق الشقة محمودة، وعلينا الصبر على المبادرين، واستقبال ما يصدر عنهم بالتشجيع، آخذين بعين الاعتبار أن البعض منهم يريدون قطع خطوات جريئة، ولكنهم يقومون بخطوات محسوبة، وأعينهم على دائرتهم التي ينتمون إليها من قيادات وقواعد مشحونة بسردية لا تنتج إلا الحقد والبغضاء، ومواجهتها لا يكون إلا بالتدرج وإلا ذهبت أصواتهم هباء.
كنت أتابع فيديو لمظاهرة يسارية وعلى رأسها حمة الهمامي وغيره من القيادات، وخلال رفعهم للشعارات ضد الانقلاب، تسلل أحد المشاركين ورفع شعار : "ياغنوشي يا سفاح"، فتوجه إليه حمة قائلا : "موش تو موش تو". أنا أدرك جيدا لو أن حمة نهره أو اعترض بحدة على رفع الشعار، لكان رد فعل الشاب ورفاقه أكثر حدة، وهو ما قد نلاحظه في الصف المقابل.
شخصيا اعترضت على تصريح بدر من أحد اليساريين دعا فيه إلى عدم الاقصاء، لأنه علله بأن هؤلاء لو تركناهم لن يتجاوز ناخبوهم 10 % من الشعب ولانتهى دورهم. بالنسبة لي كان التصريح مستفزا ويكشف من زاوية عن لامبدئية صاحبه، ولكنه من الناحية "البيداغوجية" لقاعدة ذلك المثقف وأنصار تياره، قد يكون هو الأسلوب المناسب لتحويل قناعتهم بالتدريج الذي لا سبيل لحصوله إلا بتلك الطريقة.
أفكر طويلا في معضلتنا، ويمكن أن ندير حوارا يمتد الأيام والليالي الطوال ... لكننا لن نتجاوز البديهية والمسلمة التالية: لا انتصار على الاستعمار الخارجي والداخلي وعلى الانقلاب بدون الوحدة، ولا وحدة بدون تكوين جبهة لقوى التغيير التي لا يجب أن يتطرق إلينا الشك في أنها قوى تغيير وتنشد الحرية والكرامة لتونس والتونسيين، ولا وجود لجبهة بدون مختلفين وإلا لما سميت كذلك. ولكن البديهي أنه في كل جبهة حد أدنى يمكن الالتقاء عليه، ولا ضير أن يكون ذلك مجرد الاتفاق على إسقاط نظام الثورة المضادة من أجل أن يتواصل التدافع بل الصراع بين المشاريع المختلفة في مناخ الحرية وبالوسائل الديمقراطية.
وهذا الذي يجعلنا نستمسك بالحوار مع فرقاء الوطن الحقيقيين، الذين يقبلون الاختلاف ولديهم القدرة على وضع أرضية مشتركة للتعايش.
أعرف أن الأمر ليس سهلا، خاصة في ظل المناخ الذي ذكرت، والتربص الخارجي الذي نعلمه جميعا، ولكن ذلك هو التحدي الذي امامنا، وتجاوزه هو شرط النجاح في مسيرة الاستقلال الوطني والمواطني.
تاريخ أول نشر 2025/2/27