أنزه الشيخ راشد عن أي نظرة مصلحية ضيقة مهما قيل عما يشاع من سقطات يمكن أن يعدها الخصوم ملفات فضائح فرضت عليه مواقف جديدة، وفي كل الحالات ليست هي الاسباب المحددة أو المحددة لوحدها. وأرجح أن موقفه منذ لقاء فرنسا إلى ما بعده بناه على تحليل للمعطيات الداخلية والخارجية أو على تهديدات غير مباشرة كما رددها الباجي وغيره أو على تهديدات مباشرة من جهات داخلية أو خارجية ليس من السهل الاعلان عنها خاصة للعموم. و الثابت عندي أن الشعارات التي يرفعها والمضامين الفكرية والعقدية والسياسية التي يقدمها تبريرية وليست إنشائية للمواقف والممارسة السياسية له وللحركة .
وأيا ما كان الحال فقد وضع الحركة في موقف تاريخي لا تحسد عليه مهما بدا من الحشد النظري والخطابي والمديح الداخلي والخارجي الذي يكال له بدون حساب .
لقد بدا لي للوهلة الأولى أن ثورات الربيع العربي وخاصة في نسختها التونسية قد اختطت لنفسها طريقا جديدا للثورات لعله إيذان بنمط جديد ، إذ هي ثورات بيضاء تكاد بقع الدم فيها لا تذكر إذا ما قورنت بغيرها من الثورات. وفي نشوة الاحتفاء بهذه "الخاصية الجديدة" غفلنا عن أن مسار الثورات حتى وإن تغيرت ملامح بعض مراحله إلا أنه لم يتغير في عموده الفقري والذي يرتكز على ضرورة اقتلاع النظام الذي قامت عليه الثورة بأكمله حتى يمكن استنبات نظام جديد، ولن نجد أبلغ من خطابات وشعارات و"قفشات" الشيخ راشد نفسه في مستهل الثورة وبعد سقوط الرأس وأيضا مواقف غيره من زعامات المعارضة وحتى من حاول الركوب في البداية من النظام السابق كالباجي وبعض تلاميذه . كما تكون الثورات في بدايتها صادقة شفافة، تعرف عدوها الحقيقي فتسمي الاشياء بأسمائها وتعرف هدفها فتتجه إليه غير مبالية.
إن التهديدات التي قدرها الشيخ ومن معه مبررا كافيا للتراجع ورفع شعار التوافق، والذي يعني فسح المجال لفواعل النظام السابق رموزا ومؤسسات علنية وسرية ومراكز قوى أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وجهوية، لا تعني شيئا أخر غير الحكم على نفسه وحركته أن يكونا وقود الموجة الأولى للثورة، التي يعقبها عودة النظام القديم في شبه قانون صارم للثورات. كل الدلائل وكل المؤشرات تجمع على أن أهم ما قام به الشيخ راشد وحركة النهضة كأقوى وأكبر فصيل سياسي، هو إخراج النظام القديم من وضع المتهم إلى وضع الفصيل الوطني الذي له مطلق الحق والحرية في المنافسة في ساحة خبرها جيدا، ولا زالت عروقه حية نابضة في كل مفاصيلها يملك المال والسلاح والجاه وشبكة العلاقات .
سيقول الكثير أن الذي قام بذلك المعارضة الأخرى بعدم تعاونها مع الحركة، ولكن ذلك في أحسن الحالات وجه الورقة الآخر الذي لا يمكن أن يحول الانتباه والمسؤولية عن صفحة الحركة باعتبارها أكبر الأحزاب ومن تصدرت تسيير البلاد.
انتاب الشيخ وبعض من حوله هوس المصير المأساوي للثورة في مصر، ظانين أنهم بما فعلوا قد أمنوا النهاية نفسها، فماذا فعلوا؟ قالوا لنمنع الانقلاب بالتنازل (التوافق)، فعاد إلينا النظام القديم عبر صندوق الاقتراع ! وحتى وإن فشل في الحصول على الأغلبية فإنه سيكون شريكا في السياسة وقائدا في الاقتصاد وفاعلا في المجتمع المدني ومالك كل أوراق اللعبة تحت الطاولة.
وعلى كل ما يمكن أن يوجه للإخوان من نقد في تجربتهم، من ضعف الأداء والارتباك والسذاجة وحتى الحماقة، إلا أنه يحسب لهم وسيذكر لهم التاريخ أنهم كانوا شهداء الموجة الأولى من الثورة لا وقودها. رضوا بالقتل على مذبح الحرية ورفضوا المساومات التي عرضت عليهم قبل الانقلاب بلحظات ولا زالت تعرض عليهم.
تاريخ أول نشر 12\4\2014