تماما كما قالها الغنوشي واعتقل مباشرة بعدها، كان مصير العجمي الوريمي الأمين العام للحركة. جاءه التهديد أو الحكم من أحمد شفتر قبلها بيوم أو يومين ثم كان تنفيذ الحكم.
كل دعوة للحوار تقابل بنفس السلوك ... وحدها دعوات الاستئصال بما فيها تلك التي تلقى من أعلى منابر السلطة في الرئاسة أو باردو تقابل بالتهليل !
قصة النهضة والدعوة للرشد، و الدعوة للتعايش السلمي، والدعوة للحوار، والدعوة للمصالحة، والدعوة للتوافق، قصة مسيرتها كلها ... في كل مرة يضيق عليها تدعو للحوار وفي كل مرة تدعو للحوار يضيق عليها ... منذ اقتحمت مجال السياسة وهي تدعو لشيئ واحد وإن تعددت المصطلحات: الحوار والتعايش.
حتى في أكثر اللحظات قتامة وسوداوية دعت الحركة للحوار وأعلنت استعدادا لا مشروطا للحوار والتنازل والقبول بما يسمح بتعايش بين أطراف المجتمع يبعده عن صراعات التنافي والاقصاء والاستئصال.
وعندما ضاقت عليها الأرض بما رحبت ولم تجد آذانا صاغية دافعت عن نفسها مكرهة في حدود المقاومة المدنية، ولم يكن من السهل ضبط ردود فعل أعضائها وأنصارها في حرب استئصالية مدمرة، ومع ذلك فقد نجحت في إيقاف التدهور المحتوم الذي أوقع الجارة الغربية في حرب أهلية راح ضحيتها مائتي ألف قتيل وشبيه بذلك ما حصل في مصر وغيرها من البلدان. وهي لم تنجح فقط في كبح جماح ردود أفعال أعضائها وأنصارها بل إنها لم تترك للساحة أن تشقها تيارات العنف ولم تتسرب لبلادنا إلا بعد أن تم إقصاء الحركة من الوجود الفاعل في البلاد.
إن هذه الروح الاستئصالية هي التي تفسر كل ما حصل بعد الثورة وإليها يرجع جل إن لم يكن كل الانتكاسات التي حصلت بل إليها يرجع جل إن لم يكن كل ما حصل في البيت النهضاوي من ارتباك وتعثر في إدارة الحزب وإدارة البلاد.
تلك النزعة الاستتئصالية هي التي عمل دهاقنتها بكل ما أوتوا من نفوذ وتغلغل في دواليب الدولة كي يعتبر كل اقتراب للنهضة منها شرا محضا تجب مقاومته ... لم تظهر النهضة أي عداء لمؤسسات الدولة بل بالعكس أبدت تفهما وتعاونا منقطع النظير ... لا بل إن مؤسسات الدولة الصلبة قد استفادت من المدة التي كانت فيها النهضة فاعلا رئيسيا في الحكم، أي في حكومتي الجبالي والعريض، ما لم تستطع الحصول عليه في حكم من قبلهم ولا حتى في حكم من بعدهم، إلا لما استبدلوا الحصول على المنافع المستحقة والدعم المستحق في دولة الدستور والقانون، بمنافع ودعم مقابل المساهمة في انتهاك دولة الدستور والقانون!
لن يطول بالناس الزمن حتى يدركوا بالدليل أن النهضة ضربت وتم التآمر عليها لأنهم يرون في مشاركتها في الحكم ضرب لدولة الريع الحرام وللدولة التسلطية ولدولة الاستعمار الداخلي ولدولة الوكيل للمستعمر الخارجي.
لن يطول بالناس الزمن كي يدرك الجميع بما فيهم النهضويون أنفسهم هذه الحقيقة.
بالأمس اجتمع طيف من معارضي الانقلاب، الذين فشلت كل محاولات دعوتهم لتوحيد صفوف معارضة الانقلاب، وبدا بشكل جلي أنهم لم يجمعوا على شيئ قدر إجماعهم وإصرارهم على عدم الالتقاء مع جبهة الخلاص ومع فصيلها الأكبر حركة النهضة. كل ما قام به الانقلاب، وكل ما أوصل البلاد إليه، وكل المستقبل الأسود الذي ينذر به، وكل الحقائق الصلبة التي تقول أنه لا مجال لاقتلاع هذا الانقلاب إلا بتوحد المعارضة ... كل ذلك لم يقنع هؤلاء بمراجعة موقفهم نحو تحالف حتى ولو كان مرحليا ، حتى ولو كان لهدف واحد وحيد هو إسقاط الانقلاب.
هذه الأحزاب التي هي على تنوعاتها مكون علماني فرنسي المرجعية الفكرية، لم تلتقط ما حصل في فرنسا مؤخرا من توحد اليمين واليسار الفرنسي في تحالف انتخابي من أجل إسقاط اليمين العنصري الفاشي، عبروا فيه عن نضج ووعي سياسي عميق، حيث انسحب من كلا الفريقين أكثر من 200 مرشح من أجل ضمان نجاح ممثليهم وإسقاط اليمين العنصري.
يسارنا التونسي بكل طيفه ما زال يعتبر النهضة أخطر عليه من الانقلاب ... فيا خيبة المسعى.
هل أخطأت النهضة الطريق بإصرارها على الحوار منذ اقتحمت مجال السياسة إلى الآن؟
بالتأكيد أنها لم تخطئ ... بل إن ذلك لم يزدها إلا قوة ... ولن يذهب مسعاها هدرا ... فهو يحفر في وعي التونسين وفي لاوعيهم، ويؤسس لبناء راسخ حتى وإن بدا تشييده عسيرا ...
وبين وعي مفارق لما عليه ساحة الوطن منذ السبعينات من قطيعة، استولت على فضاء الجامعة والبلاد، كان الاسلاميون يبحثون عن جسور التواصل، ويؤكدون في كل مناسبة وفي كل محنة أن لا بديل عن الحوار والتعايش والتوافق والمصالحة ...
حدثني العجمي الوريمي أنه في صيف 82، أي أشهرا قليلة بعد "مجزرة منوبة"، انطلقوا في جلسات حوار بعيدة عن أعين الناس بينهم وبين الوطد ممثلا في رضا لينين. وكانت حوارات مهمة لولا أن رضا لينين الذي حرص على عدم إفشاء سرها، وجد نفسه عاجزا عن تمريرها داخل فصيله.
العجمي الوريمي رجل الحوار بدون منازع، ولكنه رجل المؤسسات أيضا بدون منازع، لم يكن يتحرك من تلقاء نفسه، فمباشرة بعد أحداث منوبة، سربت من سجن برج الرومي رسالة الغنوشي التي يعلق فيها على الأحداث ويقترح فكرة استفتاء، للخروج من مأزق التناحر الذي وصل حد ارتكاب مجزرة.
لاحظوا ... العجمي الذي كان المستهدف الأول في مجزرة منوبة، هو الذي يقود حوارا لنزع فتيل التناحر والتقاتل، ولإرساء أسس تعايش بين أبناء الوطن الواحد.
الذين يرفضون الحوار، ويرفضون المصالحة، ويرفضون التوافق من الفرقاء السياسين، هم الذين يمدون في أنفاس انقلاب لا يخدم إلا مصالح الاستعمار الداخلي والاستعمار الخارجي، وهم الذين يمدون في غطرسة الانقلاب ومن وراءه ومن يدعمه داخل الدولة، ومهدوا له الطريق كي يقابل دعوات الحوار بالسجن والتنكيل ومصادرة الحريات، التي كان ينعم بها الجميع في عشرية الانتقال الديمقراطي المغدورة، من بعض قوى الثورة أكثر من أعدائها.
تاريخ أول نشر 2024/7/18