هناك "سردية" خبيثة يراد تثبيتها، وهي أن الإسلاميين "منبوذين"، وكل من تورط في "التحالف" معهم، انتهى به الأمر إلى التلاشي. ويضربون لذلك الأمثال المعروفة.
والمؤسف أن هذه السردية المدعاة وجدت طريقها حتى للإسلاميين أنفسهم، حيث يستبد بهم الشعور أنهم مقصيون ويراد استئصالهم، وأن الكل يتآمر عليهم. وقد نتج عن هذا الشعور رد فعل سلبي من طرف بعض الاسلاميين جعلهم ينفضون أيديهم من كل فكرة تتعلق بالبحث عن المشترك مع الأطياف الأخرى، ويرون أن سعيهم القديم للتعايش والتعاون، ومحاولاتهم المتكررة للتوافق والتحالف، إن على صعيد مؤسسات الحكم في عشرية الثورة والإنتقال الديمقراطي، أو على نضالهم في سبيل الحرية قبل الثورة، أو نضالهم بعد الانقلاب من أجل استئناف مسار ثورة الحرية والكرامة، إن سعيهم ذاك لا فائدة منه ولا معنى له، لأن المحصلة كانت دائما هزيلة برأيهم إن لم تكن معدومة عند أشدهم تشاؤما.
ورأيي أن هذا الشعور هو سقوط في حضن تلك السردية، التي تريد قلب الحقائق، وضرب النتائج الإيجابية والمسار الصحيح الذي سار عليه الإسلاميون منذ ولجوا الحياة السياسية من بابها الكبير.
ليس صحيحا أن الإسلاميين مفردين "إفراد البعير المعبد"، فمنذ دخلوا الحياة السياسية ولا سيما الحياة الحزبية، إلا ولهم حلفاء وأصدقاء أحزابا ونخبا ورموزا سياسية وفكرية ومجتمعية. وقد عمل النظام وبعض فلول الإقصائيين على زرع مناخ من الترهيب جعل البعض يتجنب التقدم أحيانا في التعاون مع حركة النهضة، إلا أن الساحة لم تخل يوما من وجود فضاء للتعاون مهما بدا ضيقا أحيانا.
وعندما نقول هذا، لا ننكر أن مناخ الاستقطاب وخطط الاستئصاليين في منع التعاون مع النهضة، كانت أحيانا تنجح في زرع أخاديد التنابذ والتصارع. لا ننكر ذلك فهو أمر واقع. لكن إرادة النهضة القوية، وإيمانها الراسخ بأن تونس لا تبنى إلا بالتوافق، وأيضا وجود رموز وشخصيات داخل الأحزاب وخارجها مشبعة هي أيضا بقيم التعايش والتوافق، كل ذلك جعل دعاة الاستئصال لا يبلغون مبلغهم الذي يريدون، في إحداث جدار سميك فاصل بين النهضة وبقية فرقاء الوطن.
وعندما يبلغ التوتر أحيانا في الساحة مبلغه، وتضيق فرص الحوار والمبادرات لا يجب أن يتخذ ذلك حجة على نفي الحقائق التي سادت، أو تلك الممكنات التي ستجد طريقها للتحقق طالما كانت النهضة وما زالت وستبقى تؤمن بتونس المتعددة وطالما في البلد عقلاء وحكماء.
وإذا كانت قيادة النهضة تعي جيدا أننا عندما نتحدث عن توافق أو تعايش أو حتى تحالف فإننا نتحدث عن مبادرات بين مختلفين وليس بين متماهين، ولذلك فهي تقبل في الآخر اختلافه عنها، وهو اختلاف يبدأ بأشياء جزئية في مواقف أو إجراءات أوسياسات، ولكنه لا يستبعد أن ينتهي بقضايا ذات أبعاد إيديولوجية تجعل التقاطعات بين مشروعين مختلفين في المنطلقات المذهبية والرؤية القيمية وفي النمط المجتمعي المنشود. وإذا كانت مساحة التعايش والتوافق يتم نسجها على ضوء مجالات الالتقاء من حيث عمقها وامتدادها. فقد يحصل أن يكون مجال الالتقاء محدودا وربما معدوما، وعندئذ يكون البحث عن التوافق هو فقط في توفير ساحة يمكن أن يكون فيها الصراع/التدافع حول المشاريع والبرامج ممكنا من دون "سقوط السقف على ساكنيه".
هذه الصورة التي تعيها قيادة النهضة - في ما احسب - قد يجد جزء من القواعد عنتا في استيعابها والقبول بها، فيسقط في رد الفعل، ويساهم بشكل غير مباشر في تحقيق خطة الخصم الاستئصالي، من أجل تثبيت سردية زائفة وخبيثة هدفها الحقيقي خدمة مصالح العدو الخارجي الحقيقي المتربص بالجميع.
والناظر بتمعن وبهدوء يرى أن ساحة المشترك في بلادنا، تتسع شيئا فشيئا وإن كانت بطيئة، وأطماع الاستئصاليين تتلاشى مع الزمن. وإذا أخذنا هذه "المعارك" من وجهها الاجتماعي/السوسيولوجي فإن احتدادها الذي بلغ أشده بعد الثورة وخاصة بعد الانقلاب، هو إيذان بهزيمتها ... فكل ما بلغ أوجه بدأ انحداره ...
ولدي يقين استقيته من تأملاتي المتواضعة في مسارات التاريخ، أنه لا شيئ يرجع القهقرى في التحولات الاجتماعية. وكل مكتسب اجتماعي لن يضيع، وإنما سيتم البناء عليه في لحظة الاستئناف القادمة، ولن تغير لحظة التوقف أو الاضطراب أو الانتكاسة الظرفية فيه مساره البنيوي.
هذه الضربات التي تكاد تقسم الظهر هي من قوانين التاريخ ومن ديناميات المجتمع، وعنفها كما تفرضه قوانين انتزاع القيم والمفاهيم والقناعات الميتة، تفرضه أيضا قوانين ترسيخ القيم والمفاهيم والقناعات الجديدة.
فقط لفتة بسيطة ... انظروا لمن يشارك قيادات النهضة سكنى سجون الانقلاب الآن ... وهي المرة ألأولى التي لا "تضرب" فيها النهضة لوحدها ...
نحن نتقدم - يا سادة - فلا تبتئسوا ... واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ... تلك هي قيمكم وتلك هي أخلاقكم فلا تستبدلوا بها قيما أخرى وأخلاقا أخرى فإنكم لن تفلحوا إلا بهما ....
تاريخ أول نشر 2025/5/2