search

لن تتعلموا .... وهل يتعلم من أذهب الله بصيرته ؟

لما انتصبت المحكمة العسكرية سنة 92 وبدأت استنطاق المتهمين، وكنت مقيما في المغرب ... كنت متلهفا لمتابعة أشغالها، مع علمي بالطوق الذي ضربه النظام عليها، وخبثه الشديد على أن لا تظهر وجهه القبيح ووجه النهضة المليئ بالعزة والتحدي ...

لم تكن تأتي للمغرب إلا جريدة الحرية لسان حزب التجمع الدستوري الديمقراطي فكنت مواضبا على شراء كل عدد يومي يصل الى الرباط بتأخير ليس كبيرا ...

كنت متلهفا على التعرف على وضعية إخواني، وخاصة زملائي القيادات الطلابية ... خاصة وأنه كانت تأتينا أخبار مروعة على تعذيبهم والتنكيل بهم ... وكان منها ما وصلنا من ان هيثم/ العجمي الوريمي ربما يكون قد فقد بصره وأن شدة التعذيب قد أثرت على توازنه العقلي ...

كانت الأخبار التي تصلنا تنزل علينا صواعق مهلكة للحرث والنسل لولا لطف الله وإيماننا الكبير بعدله ولطفه ...

كان محرر أخبار المحكمة في الجريدة المرحوم محمد بوغنيم، وهو في الأصل معلق رياضي ... ولا أدري هل هو فعلا من يقوم بذلك أم أنه فقط يتم التوقيع باسمه ... وكانت أخبارا مقتضبة غالبا، ولا تنقل من أجوبة المتهم إلا يسيرا ....

لكنني أشهد أن المحرر كان موفقا بالنسبة لي، حيث مكنني من أن أتعرف على وضعهم النفسي والعقلي من خلال تلك الكلمات التي ينقلها ...

ورأيت من خلال تلك الكلمات إخواني كما أعرفهم حضورا ذهنيا وعزة نفس وشخصية لم تتغير ولم تتبدل ...

وكان ما أثلج صدري أن كان هيثم/ العجمي كما عرفته عقلا وروحا بخصوصيته التي لا تشبه أحدا ...

هيثم الذي عرفته وقاسمته الأيام والليالي الطوال ... وقاسمته "باكو الحليب" و"قطعة الخبز" و"شيئا من البرتقال" للاستعانة به على سهر الليالي الشتوية في التخطيط والمتابعة ...

أحسست وكأننا معا بين الشقق التي تقاسمنا السكن فيها، في حي السمران وابن خلدون وحي فطومة والمنزه وإريانة وخزندار والزهروني أو في مبيتي راس الطابية ومنوبة الطلابيين ...

هيثم الذي لا يستطيع أن يرد سائلا ولا ان لا يقف مع طالب استوقفه حتى ولو تأخر عن موعد ضروري ...

كنت أنا شديد الانزعاج وكان "يقهرني" بهدوئه الشديد وببسمته الآسرة ...

يا الله .. أحاول أن أنتزع من الذاكرة موقفا لهيثم الغاضب أو هيثم المتوتر أو هيثم الذي يصرخ إلا في الاجتماعات والتجمعات ....

كنا نحن "رجال التنظيم"، نميل للتحسب وللشك وأحيانا لسوء الظن ... وكان هو يبدو لنا "غرا كريما" شديد إحسان الظن بالناس ... إلى حد أن بعض إخوانه يعدونه ساذجا و"بهلول" .... لكنه ليس كذلك يا قوم ... إنه يتقد ذكاء وفطنة، وله بصر وبصيرة يكشف بها ألاعيب النفوس الصديقة والعدوة .... ولكنه لا يفصح عن ذلك .... وحتى إذا أفصح يدخل لك من باب حسن الظن .. من باب الكياسة ... والذوق الرفيع ...

هيثم ... قصص لا تنقضي من الوعي والتجدد الدائم في الفكر والنقد .... وقدرة عجيبة على الصبر على المخالف ... قدرة عجيبة على الانصات ... وقدرة عجيبة على الابتسامة في وجه الد خصومه ...

هيثم ... مثال للولاء للحق وللمشروع وللحركة وللحزب ... هيثم الذي وضع لنفسه جدار صد منيع لكل ما يرى فيه تكتلا شلليا، ونزعة للعمل من وراء المؤسسات حتى ولو كان أصحابها يفعلون ذلك بنيات حسنة ....

هيثم ... الذي يقدر الرجال وينزلهم منازلهم ولا يتطاول عليهم ويجامل حتى من يتهجم عليه ويروم الانتقاص منه ... يفعل كل ذلك بهدوء عجيب وثقة في النفس ...

هيثم ... قصص لا تنقضي من التواضع والزهد الحقيقي ... الزهد الحقيقي هو أن تأتيك الدنيا وتتركها وراءك أو لا تسلم لها نفسك ... هكذا كان العجمي ... ولو أراد لملئت الدنيا عليه كل ما حوله ... لكنه كان زاهدا فعلا ... في المال والمناصب وفي كل ما قد يحرفه قيد أنملة على هدفه ومشروعه ...

لكل ذلك لا أعجب كيف تعامل معه الحاقدون وكيف يتعاملون معه الآن ...

ولكنني في نفس الوقت أعجب كيف لمن له بصيص من العقل أن يفرط في شخص مثل العجمي لن يجد أفضل منه لإدارة حوار أو حل مأزق أو الخروج من أزمة أو وضع أوزار حرب مدمرة ... كيف يفرطون فيه ...

فليتأكد من أراد أن يؤذي العجمي الوريمي انه إنما يؤذى نفسه ... ولن يؤذي النهضة في شيئ ... ليس للحمق نهاية .... ولكن نهاية الظلم وعاقبته وخيمة ... ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها العجمي ولكنه ككل مرة سينتصر ... العجمي المتبتل أبدأ في محراب النضال في سبيل قيم الحق والعدل والحرية ... العجمي الذي فرض حبه واحترامه على الأعداء قبل الأصدقاء لن يهزمه من اسودت قلوبهم وأعمى الحقد أبصارهم ...

العجمي الذي اختارته النهضة كرجل الحوار الأول وداعية التعايش الأمثل ... وعبرت باختياره عن نضجها ووعيها وسلامة قصدها ورغبتها في البحث عن المخارج التي تحفظ للوطن سيادته ووحدته وكرامته ... يستهدفه الانقلاب وزبانيته ويتم الاحتفاظ به ويمنع من مقابلة المحامين 48 ساعة ...

كان واضحا لدي أنه سيستهدف ... منذ سمعت الحوار الذي دار بينه وبين أحمد شفتر على أمواج إذاعة ديوان أف أم ... لم يتورع هذا الانقلابي النكرة عن التصريح بأن "أخطر ما بقي من النهضة هو هذا التشكل الذي فيه العجمي الوريمي ... وأنكم الرقم الخطير في إمكانية التآمر"

كانت الرسالة واضحة وقد التقطها العجمي مباشرة وعلق عليها: يا ستار يا ستار ... هذه المقدمات ماذا تخفي؟

إنها رسالة الاستئصاليين الذين يقودون الانقلاب أو يوظفونه أو يتخفون وراءه .... لكن لا العجمي ولا النهضة يمكن أن يسقطها أحد أو جهة في مستنقع رد الفعل بالمثل ولا حتى بأقل منه ... ولا أن يجعلها تتزحزح قيد أنملة عن رسالتها التي نذرت نفسها لها ألا وهي الدفاع عن الحرية والكرامة والعدالة للجميع كائنا من كان وعن تونس الحرة الأبية الحاضنة لجميع أبنائها البررة.

أما أنت أيها العجمي ... أيها الطيب الذي فاق شذاه نفح الطيب ... والصبور الذي حار الصبر في صبره ... والمؤمن الذي آوى الإيمان إلى ركنه ... ستظل كما أنت نورا ونارا ... تسعد من أضاء ما حوله قبسا من نورك ... وتحرق - رغم أنفك - من كبه الله في نارك ...

وسيبقى العجمي أقوى من تدبيرهم الخاسر ... والنهضة أكبر من كيدهم الضعيف ...

ذلك هو العجمي بفرادته ... وتلك هي النهضة برجالها ... ومعين رجال النهضة لا ينقطع ...

إذا غاب منَّا سيدٌ قام سيدٌ ### قؤول لما قال الكرام فعولُ

تاريخ أول نشر 2024/7/14