قد يكون هذا الكلام بديهيا عند البعض، وقد يكون اختزالا مخلا عند آخرين .... لكنه لا هذا ولا ذاك، طالما انه مثار اختلاف طرفاه من ذكرت.
كل دارس أو متابع للحركة الاسلامية التركية، يدرك انه لولا المسيرة التي قطعتها حركة "مِلٌِي غوروش" بأذرعها المختلفة، وعلى رأسها احزابها السياسية المختلفة: السلامة الوطني، الرفاه،الفضيلة،السعادة، ما كانت مسيرة العدالة والتنمية.
أردغان هو "الابن الشرعي" لأربكان، ورث نهجه وكسبه ورؤيته، وبنى على كل ذلك مسيرته. فغير حيث يجب أن يغير، وطور حيث يجب أن يطور، وانفتح حيث لم يكن في مقدور سلفه أن ينفتح، واستفاد من غياب الزعيم المؤسس، كي يفتح آفاقا ما كان لها أن تنفتح بوجوده. لا لأن الزعيم المؤسس لا يريد ذلك، بل لأن محددات المسيرة نشاة وفعلا ورمزا لا يمكن لها أن تيسر ذلك.
تظل الرؤية والمنهج هما أساس الكسب والممارسة. فهل أن رؤية أردغان ومنهجيته اختلفتا عن رؤية أربكان ومنهجيته ؟ بالقطع لم تختلفا ... إنها رؤية واحدة ومنهج واحد وإن اختلفت تفاصيل النسختين.
فالرؤية الوطنية واحدة ... ونلاحظ هنا انه على خلاف الحركة الاسلامية العربية وحتى في شبه القارة الهندية التي ارتبطت بالاسلام و"جماعته"، فإن الحركة الاسلامية التركية كانت منذ وهلتها الأولى "وطنية" سواء في الحركة الأم " الرؤية الوطنية= ملي غوروش" أو في ذراعها السياسي "حزب السلامة أو النظام الوطني". وإذا كانت الانقلابات المتتالية قد فرضت على أربكان أن يحتمي بكيان أكبر من الحزب و هو حركة "الرؤية الوطنية"، مما مثل حماية له وفي نفس الوقت قيدا عليه لما فيها من "الازدواجية"، فإن تطورات الوضع، وبلوغ المسيرة الأربكانية انسداداتها، فتحت لأردغان إمكانية التخلص من الازدواجية بالخروج من ربقة "حركة الرؤية الوطنية" بازدواجيتها وصفويتها ومنهجها وتنظيمها الذي يشابه وإن لم يكن يماثل التنظيم الاخواني. كانت المسيرة الأربكانية ستتجه حتما لما ذهبت إليه المسيرة الأردغانية، لكنها لم تكن لتبلغها في شخص أربكان للمعوقات الذاتية والموضوعيه. وقد أصبحت ممكنة لابن الحركة أردغان المتخفف من الأحمال التي كانت على كاهل الزعيم المؤسس.
أما عن البرجماتية السياسية، فأيضا ليس أردوغان إلا "ابنا شرعيا" لأربكان "البراجماتي" الأكبر، الذي تكشف مسيرته كلها عن براعة أهلته مبكرا لأن يكون نائب رئيس الوزراء ، ولتشهد فترته تلك إصداره لأحد القرارات الوطنية المفصلية في تاريخ تركيا المعاصرة ألا وهو قرار الانتصار للأتراك القبارصة ودخول الجيش التركي قبرص. واستمر أربكان ببراعة ملفتة ممارسة البراجماتية، فكان دائما الرقم الصعب في الحياة السياسية، مما فرض على الجيش انقلابين معلنين فضلا عن الانقلابات الخفية.
لم تكن الانقلابات والمعاناة التي لقيتها المسيرة الاربكانية نتيجة تصلب وتكلس أربكان، بل كانت نتيجة براجماتيته و قدرته الفائقة على التسلل لهم في كل مرة يسدون أمامه المنافذ من حيث لا يحتسبون. ولم تكن مواقف أربكان وقرارته - التي قد تقرأ الآن على انها تشدد أو تطرف أو عدم مرونة - كذلك من الناحية الموضوعية. ولولا تلك المواقف، لما كانت قطعت خطوات في مركٌب البناء المعقد لمسيرة الحركة الاسلامية، الذي أهلها لأن تأخذ ثقة الشعب التركي، كي يخوض بها معاركه في الاستقلال والسيادة والقوة الاقليمية والتطلع لاستعادة "المجد القديم".
اما عن مضمون التجربة، ألا وهو البديل الوطني، فمن دون أدنى شك فإن ما فعله أردغان، هو استمرار وبناء على ما اخطته وبدأه وقطع فيه اشواطا أربكان. فـ"الجيوبوليتيكا" التركية و"الصناعة" التركية و"الانجاز" التركي و"المحافظة" التركية بصمات أربكان فيها لا تخطؤها عين الدارس والمتابع والمراقب.
النظر للتاريخ من وجهة "التقدم"، يبدو جليا فيه أن أردغان لا يعد إلا استمرارا لأربكان، وتجديدا لما لم يعد قابلا للفعل في إرثه ... لا بل إن ما يبدو أخطاء في مسيرة أربكان، كان ضروريا لمسيرة أردغان. فلئن كان بعض ما حصل في تجربة أربكان أربكها وتسبب لها في متاعب، إلا أنها من زاوية أخرى كان لها فعل آخر إيجابي في النفوس وفي الواقع التركي من جهة، وفي استخلاص الدروس من جهة أخرى، مما جعلها في المحصلة النهائية كسبا ....
وذلك هو منطق التاريخ " احتفاظ وتجاوز"
تاريخ أول نشر 17/5/2023