سأكتب ضد التيار ... و أشارك كثيرين ممن وقفوا ضد التسليم بالأمر الواقع و إضفاء القداسة - ليس فقط على ما لا يجوز فيه القداسة من أفعال البشر و الجماعات - بل ضد التلاعب بالتاريخ، و ضد طمس الحقائق، وضد النظر بعين واحدة، ومن زاوية واحدة ...
الإتحاد - أحب من أحب و كره من كره - مساهم أساسي، بل صانع أساسي للسياسة الاجتماعية ولمنوال التنمية (بنسخه المختلفة) الذي تم تنفيذه بعد الاستقلال (وأنا للأمانة أنقل هذه النظرة الدقيقة عن لطفي زيتون). صنعها مباشرة خلال عشرية الستينات التي شهدت تنفيذ مشروع الاتحاد، بل وإشراف أحد قياداته على ذلك. وصنعها في السبعينات من خلال دعمه ومساهمته في الحكم، وانتصاره للشق المحافظ في الحزب الذي نفذ منوالا جديدا للتنمية قبل به الاتحاد ودعم حكومته إلى حدود 78 ... وانهارت مقاومته سريعا، واستطاعت السلطة شق صفوف مركزيته والتلاعب بها طيلة الثمانينات. ثم كانت مرحلة بن علي لعشريتين متتاليتين..... كانت فيها مركزية الاتحاد تحت طلب بن علي، تدافع عن خياراته الاستئصالية في السياسة، وتلعق موائده وتلتهم عطاياه بكل صفاقة. بل واصلت المركزية النقابية دفاعها وحمايتها لبن علي حتى الربع ساعة الأخير.
هكذا كانت المركزية النقابية على طول تاريخها "ذيلا " للسلطة، لا يصرفها عن ذلك إلا اصطفافاتها داخل صراع الأجنحة، أو الاستجابة لضغوط القواعد النقابية عندما يشتد عليها الخناق من طرفها، وتضعف يد السلطة القابضة بفعل صراعاتها الداخلية ...
التيارات السياسية هي التي حمت الاتحاد من مركزيته، من خلال الاستظلال بظله والتمترس وراءه، لممارسة ما لا تستطيع ممارسته بفعل القمع الممنهج وانغلاق الحياة السياسية ... وكلنا يعلم أن التيارات السياسية تمترست داخل النقابات الآساسية وبعض القطاعات العمالية، لكي تقاوم السلطة وتقاوم في نفس الوقت المركزية النقابية. تحمي الاتحاد من مركزيته ومن السلطة، لكي تحمي نفسها وتحمي تطلعات المعارضة للتغيير السياسي وإسقاط نظام الحزب الواحد .
التيارات السياسية الراديكالية اليسارية والاسلامية والقومية هي التي حمت الاتحاد، وهي التي جعلت منه قلعة صامدة تقاوم السلطة برغم استعداد المركزية النقابية للقبول بإملاءاتها .
في عشريتي بن علي استسلم الاتحاد أكثر، وانخرط أكثر في "خدمة " السلطة .... لماذا ؟ لأن المعارضة الراديكالية تم ضربها ضربة مزدوجة، حيث انخرط شق من المعارضة الذي صعد للمركزية في مشروع السلطة الاستئصالي لحركة النهضة ....
لكن قواعد الاتحاد، والتي تؤطرها في الغالب التيارات السياسية، انخرطت في الثورة، وجعلت من المقرات الجهوية منصات لدعم الثورة. وعند تصاعد وتيرة الاحداث، وتبين ميلان الكفة، لعبت الاتحادات الجهوية دورا متقدما لعل أهمه مسيرة صفاقس، و لم يبق للمركزية إلا الاستجابة للضغوط للإلتحاق بركب الثورة .
ذلك هو الاتحاد .... وكل تضخيم لدوره تاريخيا، كان القصد منه توفير مظلة لقوى التغيير، وجدارا واقيا من عسف السلطة ....
كان الاتحاد شريكا في السلطة، ومسؤولا مسؤولية السلطة في خياراتها الاجتماعية والسياسية ....
لا اقول أن هذه هي الحقيقة، ولكن من يتعامى عن هذه الزاوية من الحقيقة، يغالط نفسه ويغالط الحقيقة والتاريخ ...
تاريخ أول نشر 2018/11/25