إذا استقرت أنظارنا نحو "الثقب الأسود" الذي يرتسم على صفحة وطننا الحبيب، فلا شك أنه بمرور الوقت سيجعل تفكيرنا ومشاعرنا لا ترى غيره، وسينعكس ذلك بشكل أو بآخر على عملنا وسعينا.
وتاريخنا، كتاريخ كل شعوب العالم، يحمل ما به يفتخر كل شعب من صور التعمير والحضارة في الأرض، وحسن الإستجابة لتحديات الزمان والمكان وساعات العسرة والفتن وكوارث الطبيعة وأهوال الحروب والتقاتل بأسباب داخلية أو خارجية. كما لم يخل أيضا من حالات الضعف والركود، والتصارع والتدافع وذهاب الريح، وتنكب طريق التعاون والتآزر، وفقدان روح التلاحم والتناصر والتغافر والتسامح.
وفي كل ذلك، يستجيب مجتمعنا إلى قوانين الاجتماع الانساني الغلابة التي لا تحابي أحدا.
ومن سنن التاريخ وأحكام الوجود الإنساني، أن المجتمعات لا تستقر على حال، وأن ديناميات الفعل القاصد للإنسان تنزع به دوما للبحث عن الأصلح، وأن وطأة الإفساد والإخلاد إلى أرض الجور والجشع والأنانية لا تدوم. وأن ما ركب في الإنسان من عناصر الهداية القلبية والعقلية تستيقظ من تحت الركام، وتبعث في الإنسان الحياة، وفي المجتمعات "النشأة المستأنفة". وقد أثر عن علماء المغرب الإسلامي الحكمة البالغة :"أفعال العقلاء مصانة عن العبث". والإنسان العاقل نزاع إلى الخير والحق والجمال بطبعه، حتى وإن غلبته أحيانا نزعة تصوير الشر خيرا والباطل حقا والقبح جمالا. لأنه من حيث الأصل لا يفعل الشر معتقدا أنه شر ولا الباطل معتقدا أنه باطل ولا القبح معتقدا أنه جمال. فحتى الشيطان لا يغريه بذلك وإنما يزين له أن ما يفعله خيرا وحقا وجمالا.
ومن قديم كان ينعت أهل إفريقية بأنهم "أهل القلم"، وإنما القلم الحكمة والتعقل والأناة والهداية.
وبقدر ما شهدت هذه الرقعة من الأرض حوادث الفتن الجسام، فقد شهدت أكثر من ذلك انتصارات العقل والحكمة عليها. فظهر فيها الحكماء، والمصلحون، وجامعو الكلمة، والناهضون للإرتفاع بالناس من وهدة الفتن والتشرذم والتنازع. وقد حفظ تاريخنا أسماءهم البارزة، وخلد مآثرهم الجلى.
وإن "كيمياء" هذه الأرض الطيبة، كما تغلبت على كل وافد وأدمجته في "مادتها"، تغلبت أيضا على كل "ناشز" وأنزلته على حكمها من التعايش والتوادد والتناصر على الخير.
وإذ لا يشك عاقل في أن ما آل إليه وضع بلدنا الحبيب من الاختلاف والفرقة، ومن التنكب عن طريق حل مشكلاته وفق اختيار أبنائه الحر، والحياد به عن الطريق الذي بذلت فيه الدماء، والتشوف منه إلى إرساء دولة الحرية والكرامة ومجتمع التعاون والتراحم، فإنه قد آن لحكمائه، أن يتقدموا لبذل الوسع في إيقاظ الضمائر، وإزالة الإحن، وجمع الكلمة على الحد الضروري لما يحفظ حرية التونسي وكرامته، والعودة بنخبه إلى صوت العقل والحكمة.
وإذ يلتقي الجميع على أن البلد على فوهة بركان لا يعلم متى ينفجر، إذا لم يعمل بجد على تجنبه. ودون أن أسرد تفاصيل ذلك مما يلاحظه المختصون والعامة ويعايشونه. وإنما تكفي الإشارة إلى آخر دراسة صدرت منذ يومين عن معهد كارنيجي، أشرف على إعدادها مختصون في الشأن الاقتصادي، تقول بلغة الأرقام وبالتحليل العلمي أننا مقدمون على مصير قاتم ما لم نتدارك أمرنا. ولا سبيل إلى ذلك إلا بما أسمته الدراسة "ائتلاف من أجل التغيير" أي بمشروع وطني جامع يوفر الأرضية القيمية والأخلاقية والسياسية لإصلاحات اقتصادية واجتماعية تمس البنى والهياكل ولا تكتفي بالمسكنات الجزئية التي قد تزيد الطين بلة.
والعقلاء يعلمون أن الحكمة تقتضي أن يلتقي الفرقاء في المنطقة الوسط، حيث قد يتحقق بعض مطالبهم، لأن ذلك أفضل من طريق التنافي وروح استئصال الخصم بتوهم الحصول على كامل "الكعكة". تلك الروح التي لا تثمر الا الأحقاد والضغائن، التي تستمر نتائجها جمرا مهيأ للاشتعال والاحراق وإن غطاها رماد المعالجات السطحية.
وإني لأفتح بهذه المبادرة بابا قد يكون أذهلنا عنه صخب التشابك، ولاذ فيه الحكماء إلى الصمت، وقد أدركوا أن ساعة الاستماع لقولهم لم يحن أوانها بعد، إذ لا يكفي أن ينطق الحكيم إذا كانت آذان السامع صماء.
بلدنا مليئ بالحكماء من كل مشاربه ونزعاته الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ويكفي أن ينطلق "السراة" الذين بحكمتهم سيتخيرون المداخل والوسائل والمضامين، فسيجدون بإذن الله من يبارك سعيهم ويشد على أياديهم ويوسع لهم في المجالس.
وبعد طول تفكير وتفحص للأمر من وجوه متعددة، بدا لي أن أتقدم بهؤلاء الحكماء الأربع الذين راعيت فيهم معان وجوانب كثيرة، منها خاصة عدم انخراطهم خلال أكثر من سنتين من عمر الانقلاب بشكل مباشر في دعمه أو معارضته عدا التعبير عن الموقف العام منه بالنسبة لبعضهم. وقدرت أن باجتماعهم سيكون صوتهم مسموعا، وكل منهم له في الوطن موقع فكري وثقافي واجتماعي وسياسي، وتاريخ وحاضر، يجعلهم قادرين على استرجاع البلد من خاطفيه، ووضعه بين يدي أبنائه، ليحفظوه كما حفظ من طرف أسلافهم حتى وصل إليهم، وليعمروه كما عمره أسلافهم حتى فاض بخيره على غيرهم.
وإن اختيار هؤلاء الحكماء لا ينقص من قدر بقية رموز الوطن ممن يعملون في أحزاب أو جبهات أو منظمات أو مؤسسات، ولعل نجاح هؤلاء مرهون باستعداد تلك الرموز إلى مد يد العون لهم وإسنادهم بالمشورة والإقتراح.
ويعول على هؤلاء الحكماء في أن يجدوا طريقا مناسبا للحوار مع مؤسسات الدولة المختلفة، من أجل توفير ضمانات إنجاح خيار وطني جامع، لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم تدعمه قوى الدولة المختلفة.
والاستنجاد بالحكماء استلزمه "ترهل" الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات ومؤسسات اجتماعية، وتشوه صورتها في عقول وقلوب عامة الشعب، بسبب خيبة الأمل فيها، حيث فشلت في حماية الثورة، وعجزت عن التصدي لقوى الإفشال التي ساهمت بقسط وافر في ما آلت إليه البلاد، ومن ذلك الاشتغال على تحطيم رمزيتها (الأجسام الوسيطة) لدى الشعب، ونجاحها في التلبيس عليه بجعلها مصدرا للشرور، وتحويل الشعب من "مواطنين" بكل ما تحمله الكلمة من حقوق وواجبات والتزام ومسؤولية، إلى "جموع" تقودها عواطف هوجاء وفتنة ظلماء ذهبت بالعقل واستسلمت للغرائز.
وعلى عاتق هؤلاء الحكماء يقع عبء استعادة مناخ الهدوء والتروي، وإرجاع الناس جميعا إلى "شاهد العقل"، لينبهوهم أولا بأنهم "يخربون بيوتهم بأيديهم"، وليحولوا تلك الأيادي العابثة بوعي أو بدون وعي إلى أيادي للاصلاح والبناء.
تتركب هيئة الحكماء المقترحة من السادة الآتي ذكرهم:
1- السيد محمد الناصر : أحد رموز العائلة الدستورية والعائلة الاجتماعية، وقد لعب دورا مقدرا في الانتقال الديمقراطي، من خلال اشتراكه في حكومة الباجي قائد السبسي، ثم رئاسة البرلمان، ثم الرئاسة المؤقتة بعد وفاة الباجي قائد السبسي رحمه الله، وسلم البلاد في انتخابات ديمقراطية إلى خلفه الذي مع الأسف انقلب على الدستور والقانون ومكتسبات ثورة الحرية والكرامة.
2- السيد حسين العباسي: الرمز النقابي الذي أشرف على الحوار الوطني، الذي نال به جائزة نوبل، وأمن استمرار الخيار الديمقراطي، وقد كانت البلاد على شفا فتنة ودماء غزيرة. ويملك السيد العباسي من الوعي ومن جرأة النقد الذاتي، ما يجعله كأمين عام سابق للاتحاد متحرر من التزاماته صلب المنظمة، وأن يساهم في مساعدتها على أن تكون قوة دفع إلى الأمام لا قوة جذب للوراء كما حصل مع الأسف.
3- الشيخ عبد الفتاح مورو: الرمز الاسلامي الجامع بخلفيته العلمية بين الزيتونة والجامعة التونسية الحديثة، الذي يعرف الجميع استقلاليته واستقلالية آرائه حتى عن الحزب الذي كان قد ساهم في تأسيسه. حمل مع محمد الناصر مهمة رئاسة البرلمان كنائب له بحيادية واقتدار. وهو معروف داخل تونس وخارجها بانفتاحه على الجميع وطبعه التونسي الأصيل وحفاظه على ارث تونس الوطني المحافظ.
4- السيد العميد عياض بن عاشور: الفقيه الدستوري الذي لعب دورا مشهودا في السنة الأولى الانتقالية للثورة، والمعروف بتمسكه بالديمقراطية ودولة الدستور والقانون. وكمفكر حداثي يستطيع أن يلعب دورا محوريا في المساعدة على تقديم توليفة تونسية حداثية محافظة اجتماعية بعيدة عن الاختيارات القصووية شعبوية كانت أو يسراوية أو اسلاموية أو قوموية.
يتمتع الحكماء الأربعة بعلاقات واسعة جدا داخليا وخارجيا، ويكونون باجتماعهم "عصارة تونس" بعناصر وحدتها وعناصر تنوعها. ويمكن لهم من واقع اختصاصاتهم وخبراتهم وتجاربهم تقديم خارطة طريق للبلد، تحمل من المعقولية والوسطية والواقعية ما تكون به قادرة على الخروج بالبلد من وضعه الحالي، إلى وضع يستعاد به أمل ومطالب ثورة الحرية والكرامة في بلد حر مستقل يفيض بخيره وإشعاعه على من حوله.
أرجو أن يتلقف الفكرة من هم قادرون على تعميقها وتعزيزها، وأن يلتف حولها نخب البلد شخصيات وهيئات ومنظمات وأحزاب، وأن يدعموها في شكل عرائض وبيانات مساندة، حتى تقع لدى الحكماء الأربعة المرشحون موقعها الإيجابي فيتقدمون لها بعزم وجد وأمل.