أظنّ أنّ الشيطان الصغير الذي يسكن رأسي ، قد ضجر منّي جفائي الطويل له و قلّة آهتمامي المفضوح به , إذ لم يحض مني و في كل إطلالاته لا بالترحيب و لا بالتبجيل , فجرت عادتي معه أن لا اقيم وزنا لزياراته المتكررة و لا أعير انتباها لشطحاته المجنونة، و لا ألتفت حتى لمجرّد ما قد يحمل من جديد لديه . في الأصل أنا لا أثق به و لا بإمكانياته و لا بخبراته.
إلاّ أنه في الفترة الأخيرة أصبح يزعجني أكثر , ربما أنه وجد مني شرود المهمومين و برودة أعصاب المُحبَطين ، فمنحه القدر مساحة أوسع لمقارعتي , و زادته غفلتي حرصا أشرس لاستفزازي و مجادلتي, و أظنّه قد إنتشى لضياعي و ضعف حالي، حيث كانت إرادته هذه المرّة أكثر صلابة لإعادة لعب دوره الكوني المعتاد في اثارة الفوضى و بثّ البلبلة داخل رأسي.
و أنا الذي كنت أحسب أنه قد استيأس و قطع الأمل منّي و قلت حيلته عني ،حتى و كأنه قد تفرّق كيده و ضعفت همّته .غير أنه و في الظاهر أن له من ذلك شأن و تدابير أخرى ربما لا أعلمها.
أخيرا إنتزع منّي قناعة بسيطة , إذ كان يكفيني من ذلك كله لخلخته للجزء الكامن من خلايا دماغي, و دحره الخمول عن بقية أجزاءه و تنشيطه للعصب المتقبّل عن وسائل الإدراك ما قد بلغته . فيدفعها جميعها نحو الحركة الموجبة للشعور و الاحساس بالوجود. فحتى و إن غابت عني بعض غاياته و أهدافه إلاّ أنه يجد مني نهاية كل زيارة نوعا من القبول المشروط على الشكل و الحذر المفرط من ما يحمله المضمون.
كان يجيد إستغلاله و بعناية شديدة لأمرين في الآن نفسه , اولهما أنه يصوّب سهام شكه نحو ما تشابه عليّ من مفاهيم , و ثانيهما أنه يترصد المواقيت المناسبة لذلك زمانا و مكانا , إعتمادا على الحالة النفسية التي أنا عليها تلك اللحظة. فتراه يستنبط من ما قد شذ و حاد منها, و قد يزيد من تطرّفه أكثر فيتشبث بما هي أقرب للبدع , مع طلب وقح لتبنّيها أو على الأقل إعادة النظر فيها
و قد يتجاوز عنوة و في حركة إستفزازية منه , التشكيك حتّى في الثوابت منها , و قد يحمّل بعضها أوزار عرج حركة الحياة و ثقلها و قد يتهمها مباشرة كأحد أهم أسباب الضياع و التيه و الإحباط المكبّل للوصول للغايات المنشودة .
بدأ أخيرا يتفنّن في طريقة طرح اشكالياته , معتمدا في ذلك تقنيات متعددة جديدة حتى يٌلبس ما آستنبطه من أفكار و آراء , رداء الفطنة و النباهة الممزوجة بالحكمة , فتبدو بعض أفكاره و كأنها أقرب للمنطق و المعقولية منها إلى العبث و اللهو بالمفردات و المصطلحات.
رغم هذا التغيّر الواضح في الشكل و في المضمون , إلا أنه غالبا ما كان يثير في نفسي الشفقة عليه و حتى الإستهزاء به, لضعف حججه و براهينه , و قلة خبرته في آختيار ما قد يلفت نظري ويستهويني , زيادة عن ذلك فإن زياراته لي عادة ما تكون شبيهة أكثر بدعوة عبثية لمغامرة مجنونة و خطرة مثلا كتسلّق قمم أعالي الجبال مدّعيا حتمية الظفر بالمنفعة و المتعة معا, فيغريني بروعة المشهد من أعالي قمم الجبال إذ تتسع معها زاوية الرؤية و تسمو معها الروح فتنال نصيبا من الإستجلاء و كأنّها نزهة عارف , زد عن كونها رياضة هي للبدن منفعة و للنفس راحة. أو مثلا كخوض تجربة للغوص داخل أعماق البحار تمكّننا من جمع النفيس من اللآليء فنضمن معها الثراء و المتعة معا , هي رياضة متكاملة , الجسم في حاجة لها , و النفس بطبعها توّاقة لإكتشاف كل مجهول . إذ النفوس لا تسمو إلا بركوب و تحدّي الخطر من الأمواج و لا تصفو إلاّ بالتشبّث بالحبل المتين المبلّغ لأعالي القمم .
متناسيا و متجاهلا قدراتي و امكانياتي المعدومة أصلا في فنون تسلق الجبال و عدم درايتي بالقواعد الواجبة لها, و جهلي المطبق بفنون الغوص و السباحة ..
فلا تغريني عندها دعواته المجنونة تلك , بل تجذبني أكثر رغبة السفر نحو عيش السلام و الآمان مع نفسي و محيطي.
منذ فترة قصيرة آستقرت دندنته مع عقلي على إشكالية بعينها دون غيرها , مضيفا لها في كل مناسبة حجج و براهين جديدة , يستنبطها من الحوادث الجارية حولنا , و يميل معها إلى أسلوب يطنب فيه آستعمال مفردات و عبارات قد تثير مني الجانب العاطفي ، لعلمه المسبق أنها من نقاط الضعف لدى البسطاء من مثلي.
أصبح يبدي حرصه لإقناعي و لفت إنتباهي ,بتأكيده الدائم على الإنتباه لنظرية تبدو معقولة و منطقية , هذه النظرية ترى أن المفاهيم التي لا العقل يجد لها شرحا و لا المنطق يجد لها قبولا , فإن الفطرة السليمة بطبعها تستهجنها و لا تستسيغها , مما يوحي بالضرورة وجود خلل ما في بنيتها .
أظنه هذه المرة قد أجاد حسن آختيار جميع العوامل المؤدية لزعزعة ما ثبت لدي في الموضوع. و لا أملك ما قد يمكّنني من تقريعه و إسكاته. ما جعلني أجد نفسي أدخل في تحدّ هو أقرب للإبحار سباحة في غريق اليم منه لمجرد نزهة مشيا على رمال ذهبية لشاطيء هاديء.
إذ أمتلكني هذه المرة شعور مخالف تماما ، أشعر و كأنه ضربني في مقتل, أفقدني القدرة على محاولة الردّ عليه و إلجامه , زاد على ذلك عدم أهليتي الخوض في مثله , فأنا لست لا من أهل الإختصاص و لا من أهل العلم حتى, فإنّي لا أملك أبسط الأدوات و الوسائل لما يسمى بالبحث العلمي .
فلا أدري إن كان علي رفع راية الإستسلام و اعلان الهزيمة ,و التي من الممكن عندها ان تتبعها سقطات قد يكون وقعها اكثر مدّا في العمق ، أو أدخل معه في مجادلة طويلة و مملّة تكسبني المزيد من الوقت ,حتى يأتي الفرج من عند الله.
أو يمكن لي البحث الفوري عن مخرج يبقي لي هيبة المؤمن الواثق و يلبسني رداء الأمان الذي يجنبني همزاته و لمزاته .و يمنحني على الأقل كسب التعادل بالنقاط ,فقد يمكن لي ذلك مثلا:
الاعتماد على الآية الكريمة:
" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "
و أكون عندها غنمت و سلمت و سلمت نفسي من علم , العلم به قد لا ينفع و الجهل به قد لا يضر.