أحب أن أناقش بهدوء مسألة الصدق والنظافة التي يتحدث عنها البعض ويعتبرونها مقياس للحكم على رجال السياسة ... وأقول ابتداءا لا يمكن ان تتحدث عن ذلك إلا بعد ان يدخل الانسان سوق ممارسة السلطة لننظر بالممارسة كيف سيتصرف ... أما قبل ذلك فالوعود وحدها لا تكفي، وكذلك طيب النوايا وحدها لا تكفي، بل والصدق مع النفس وحده لا يكفي ... إذ قد يكون كل ذلك مجرد توهم .... كان بورديو عالم الاجتماع الفرنسي ينتقد بعض السلوكات الاجتماعية التي " تجعل من الضرورة فضيلة"، ففاقد السلطة لا يمكن ان ينسب له الحكمة في ممارستها، في حين انه يفتقدها، أو لأنه مارس نوعا من الحكم لا يمكن مقارنته بإدارة سلطة الدولة... والذي ينسب إليه التعفف في إدارة المال لا يمكن ان ان ينال ذلك الشرف إلا بعد ان يخوض تجربة إدارة المال العام .... لذلك أثر عن عمر ابن الخطاب الذي يتردد اسمه هذه الايام، أنه سمع رجلا يثني على آخر فقال له هل سافرت معه ... يعني هل اختبرته الاختبار الحقيقي حتى تهبه كل تلك الخصال ...
استمعت للندوة الصحفية لمحمد عبو. فتأكدت مما كنت أراه فيه من انه يتكلم بغرور وطوباوية ليس لهما علاقة بممارسة السياسة في الواقع. واكبر جواب على ادعاءاته سابقا ولاحقا، هو ما قاله بالامس في الندوة الصحفية. فقد اثبت بنفسه أنهم كانوا هواة، وكانوا لا يحكمون. وان إكراهات جهاز الدولة أكبر بكثير مما كانوا يتصورون... ولكنه مع ذلك أثبت انه مثل غيره استغل جهاز الدولة لينتقم ضد خصمه السياسي بطريقة انتقائية فجة .... وربما كان جهاز الدولة أكثر منه حكمة، حين رفض هذه الانتقائية ولم يطاوعه في رغبته ....
ولد حزب التيار في منعطف تاريخي للاحزاب السياسية، وهي الانتقال من الاحزاب الايديولوجية الى الاحزاب التدبيرية. وهو بالقطع لم يستطع ان يكون حزبا إيديولوجيا ولا حزبا تدبيريا .... فالعمل الحزبي معاناة كبيرة فكرية وعملية أكبر بكثير من الشعارات أو التجمعات الشللية .
وألاحزاب التي نجحت - منذ منعطف القرن الجديد - ان تصمد كلها كانت أحزاب / لوبيات، أو أنها انشقاق كبير ونوعي عن حزب عريق وتجربة عريقة وكبيرة في سوق السياسة.
لكل شيئ عمرا ومسارا شبيها بمسار الانسان طفولة فمراهقة فرشد وتجربة .... التيار الديمقراطي في رأيي لم يكن له في أحسن الحالات إلا احلام المراهقين، ولا زال بينه وبين الرشد مسافة وأشك انه سيبلغها .... لأن الاعاقات البنيوية التكوينية يعسر إصلاحها ....
تاريخ أول نشر 2020/9/3