search

مراجعات صالح كركر

المناضل والقيادي الإسلامي صالح كركر، رجل من العصبة الاولى التي وضعت حجر الأساس للجماعة الاسلامية، قبل ان تتحول الى الاتجاه الاسلامي ثم حركة النهضة ثم حزب حركة النهضة. وقد استمر قياديا بارزا في صفوفها حتى سنة 2002 تاريخ فصله بقرار من مجلس شورى الحركة، وهو محاصر من نظام بن علي والبوليس الفرنسي ومنفي وتحت الإقامة الجبرية.

ولم يكن "إرجاعه" للحركة بعد الثورة ولا "مهزلة" ترشيحه لمجلس الشورى وهو شبه فاقد للحركة العضوية والتركيز، إلا لتزيد في الظلم الذي لقيه من رفاق الطريق ومن مؤسسات حركة جاهد من أجل تأسيسها وبنائها.

امتحن صالح كركر امتحانا عصيبا، وابتلي ابتلاء شديدا، حيث بالاضافة الى محاكمته سنة 1981 مع قيادة الحركة بـ 10 أعوام، ومحاكمته سنة 1987 بالإعدام غيابيا، لاحقه البوليس السياسي في فرنسا، ودبر له المكائد والمؤامرات المختلفة، وكان أقساها التواطئ مع البوليس الفرنسي لتهجيره من باريس، والتفريق بينه وبين اسرته، ووضعه تحت الاقامة الجبرية في مدينة فرنسية نائية من سنة 1993 الى سنة 2005 أين أصيب بسكتة دماغية نجا على اثرها من الموت بأعجوبة، لكنها أقعدته وشلت قدرته على الحركة والتركيز.

كانت سنوات النفى القسري والإقامة الجبرية في مدينة فرنسية نائية سنوات تأمل وتدبر وقراءة ومراجعة، انتهت به إلى تقديم أفكاره في نص نشر على صفحات جريدة الحياة سنة 1998 لاقى تفاعلا كبيرا، ثم نشره في نفس السنة في كتاب مع النصوص المتفاعلة معه وردوده عليها ومع مقدمة ضافية تمثل تفصيلا وتدقيقا لرؤيته.

يستطيع كل قارئ للكتاب وعارف بالرجل وتاريخه أن يدرك أن أفكاره تلك في الحقيقة مراجعات لتاريخه هو بالذات كقيادي بارز لعب دورا مركزيا في نشأة وتطور الحركة الاسلامية في تونس.

لم يكن صالح كركر قياديا عاديا. لقد كان شعلة من النشاط، ودفقا من الحيوية، وفورة من فورات الروح والعاطفة الجياشة، وعقلا حيا لا تهدأ ولا تنام خلاياه، وعزيمة تكسر الصخر، وحركة لا يعترضها السكون.

كان رجل المؤسسات والعمل المؤسسي، وقد لعب دورا مركزيا في التأسيس لذلك داخل الحركة، وكان هو الذي أشرف على لجنة اعداد القانون الأساسي للحركة كما كان عصب العمل التنظيمي والمؤسسي.

وعلى غير الصورة النمطية التي تم الترويج لها من خصومه خاصة خارج الحركة، لم تكن تلك المواصفات التي توحي بشخصية منغلقة منطبقة في الواقع العملي عليه. فقد كان لاختصاصه وعمله في مجال الاقتصاد وخاصة الاقتصاد الكمي، دور في استشعاره لأهمية الانفتاح على المجتمع، وعلى مؤسسات التغيير الاجتماعي. فكان هو الرائد في الانفتاح على العمل النقابي والانخراط في الاتحاد العام التونسي للشغل، كما كانت لزيارته لايران قبيل ثورة الخميني دور في توسيع افقه التغييري.

تبقى الشخصية الأساس هي التي تتحكم في طبيعة الانسان، حتى ولو غير بعض رؤاه الفكرية أو حتى كلها من النقيض الى النقيض. فسمت صالح كركر وشخصيته الجادة، وحمله النفس على الأخذ بالعزائم، وروحه التواقة للانجاز وركوب الصعاب، تجعله دائما سواء شرق أو غرب في رؤاه، رجلا حاسما جادا مغامرا. وهذا ما يبرز في مراجعاته التي تبدو "جذرية" في انتقالها الفكري من الرؤية الصفوية الاخوانية المنغلقة ذات المسحة القطبية الى الرؤية الاصلاحية المنفتحة، لكنها لم تفقده روحه الجادة والحاسمة والمغامرة.

لقد احدثت مراجعاته دويا وتم استغلالها داخليا "للتخلص" منه حيث جمع له من التهم المتناقضة بين "ما عليه في القديم" و"ما سيكون عليه في الجديد" واتخذ حجة لفصله عن الحركة.

لكن جوهر القضايا والمراجعات التي طرحها، كان مما استقرت عليه مراجعات النهضة بعد المؤتمر العاشر، لا بل إن الشيخ راشد كتب مقالا في مجلة المنار الجديد بعد نشر نص كركر بأشهر، التقى فيه في الكثير مما كتبه كركر فضلا عن ان بعضه الآخر كان مما أعلنه الشيخ راشد في ما قبل وربما تحفظ عليه كركر أنذاك.

من أطرف ما قرأت نقدا لابن خلدون ما قاله الحسن الثاني، من أنه " كان سياسيا فاشلا وكتب مقدمته بعد مشاركاته في محاولات انقلابية فاشلة". ومن يدري لعل ابن خلدون لو لم يفشل لما انقطع لقلعة ابن سلامة ليهدينا مقدمته الرائعة. ولا عيب أن يفشل الانسان ويراجع نفسه ويقدم بجرأة على ذلك، ويقدم لنا رأيه بشجاعة وهذا ما فعله صالح كركر رحمه الله.

جوهر مراجعات كركر لم يكن بدعا من القول، فقد سبقه مصلحون مسلمون كثر، ومنهم محمد عبده مثلا. ولكن يبقى ما قدمه خاصة في نقد تجربة الحركة الاسلامية في تونس مهما، يلتقي مع النقد الذي قدمه مبكرا احميدة النيفر ومجموعته، والتي لقيت "هجوما عنيفا" داخل الحركة يومئذ وكان كركر "فارسا" في ذلك.

كتب كركر في الصفحة 43 من كتابه: الحركة الاسلامية واشكاليات النهضة: "لقد بدأت حيرتي وتساؤلاتي منذ مطلع التسعينات، منذ أن فشلت الحركة التي أنتمي إليها في مخططاتها، وتمكن النظام القائم من محاصرتها وضربها. أصبحت مقتنعا أن لا سبيل للحركة أن تواصل طريقها بنفس المنهاج والقناعات والمخططات وبنفس المسؤولين. وقد رفعت صوتي عديد المرات في مؤسسات الحركة، إلا أن الأجواء لم تكن مناسبة ولا هي معينة على إيجاد الحلول. وانا بدوري وان كنت وقتها مقتنع بضرورة التغيير داخل الحركة، إلا انني لم أهتد بعد الى صيغة هذا التغيير".

ثم ذكر أن ملامح التصور الجديد، قد اكتملت لديه منذ سنة 1995، أي بعد أن ابتلي بالنفى عن أهله ومقر إقامته في باريس، والاقامة الجبرية في مدينة فرنسية نائية وفرت له رغم مرارتها وقتا للقراءة والتفكير والتأمل.

وفي معرض رده على ما كتبه الشيخ راشد حول رؤيته، حيث ألمح الى أن حالة صاحبها "انتقلت من طور طالما عرفت به، أعني رفضها للخيار السياسي الديمقراطي انتصارا للخيارات الراديكالية الى طور الدعوة الى تأسيس حزب علماني جملة"، كتب كركر " لقد عاب الأستاذ وكثيرون آخرون مثله عني التحول عن مواقفي الراديكالية حسب تصورهم، الى مواقف مناقضة للأولى تماما قد تكون حسب رأيهم مجانبة للمعقول والممكن اسلاميا. وإذا صح ما نسب إلي من قناعات ومواقف سابقة فليس عيبا أن يتحول عنها الإنسان نتيجة أبحاث موسعة وقراءات مطولة وتأملات فاحصة متأنية، فليس عيبا أن يفقه الانسان بعد جهل وأن يدرك بعد غفلة، فالحركة والنمو من مقومات الحياة والجمود من صفات الأموات".

كما اعتبر أن قول الشيخ راشد أنني انتقلت الى " طور الدعوة الى تأسيس حزب علماني جملة"، "أقرب الى الى الحسم المسبق على أساس الاتهام ومحاكمة النوايا وتشويه الفكرة ومشروعها والحط المقصود من صاحبها وارادة عزله، منه إلى الإرادة الجادة في محاورة الفكرة ومقارعتها بالحجة من أجل ترشيدها وتنضيجها إذا بان صلاحها أو نسفها واستبعادها إذا بان فسادها".

يقول في معرض الرد أنه "مهموم بتقريب المجتمعات المسلمة من دينها، وضرورة التحام الإسلاميين مع الواقع ومكوناته السياسية الوضعية القائمة، أو تلك التي يمكن أن تقوم، ولا ينشطون سياسيا في أحزاب وحركات إسلامية خاصة بهم تميزهم وتعزلهم عمن سواهم في مجتمعاتهم المسلمة بطبيعتها وذلك لطلب الحكم لأنفسهم". كما يقول أن "ما آخذنا عنه خطأ الاستاذ راشد وقع فيه ، ربما بدون شعور منه، فهو ما انفك يكرر في كل المناسبات أن حركة النهضة التي يرأسها لا تطالب بتطبيق الشريعة" فأين الفرق ؟ إلا اذا كانت عدم المطالبة بتطبيق الشريعة سياسة مرحلية مما يوقعنا في محضور الازدواجية بمعنى لا نطالب بتطبيق الشريعة الآن ولكن عندما نستلم الحكم نمارسها!".

يبدو كركر متبعا تسلسلا منطقيا، حيث بدأ بتصحيح العلاقة بالمجتمع، والتحرر من الصبغة الصفوية التي نشأت عليها الحركة، والتي تعتبر مجتمعها مجتمعا جاهليا تأثرا برؤية سيد قطب رحمه الله.

لقد قادته تأملاته إلى خطأ النظرة الاستعلائية الوصائية للحركة الاسلامية تجاه مجتمعها، وإلى خطأ تقديس "التنظيم" الذي اعتمدته الحركة، بل وجه إليه سهام نقد حادة، كما هاجم العقلية المتكلسة وسيطرة الجمود والتقليد، وعدم الأخذ بالمنهج العلمي وتطوراته في الحكم على الظواهر وفي البحث عن الحلول وفي مواجهة التحديات.

وإذا كان كركر في كثير من تلك القضايا ملتحق بركب "المجددين" في الحركة الاسلامية ومن بينهم الشيخ راشد، فإنه في موضوع العلاقة بالمجتمع وموقع الاسلاميين فيه وبخاصة في مستوى ممارسة الاسلاميين للسياسة كان أكثر وضوحا وجرأة وحسما. فكما كان "قديما" رافضا لطريقة ممارسة الحركة للسياسة في توجهها الجديد منذ الاعلان سنة 1981، فهو "حديثا" رافض أيضا للممارسة السياسية لها والقائمة على الازدواجية برأيه.

يبدو كركر غير منسجم مع الرؤية والممارسة السياسية للحركة التي انحصرت وضيفتها في طلب السلطة، تاركة المجتمع، ومحملة الإسلام وزر حصره في طلب السلطة. وهي فكرة تقترب من رؤية الشيخ البوطي رحمه الله الذي رفض عرضا بإنشاء حزب إسلامي، قائلا إن الإسلام أكبر من أن يحصر في حزب.

يرى كركر أن التواجد في الأحزاب التقليدية وممارسة السياسة فيها بروح إسلامية، وبدون لافتة تفرض وصاية على الاسلام وعلى المجتمع باسم الاسلام، أفضل من تأسيس أحزاب إسلامية توقع المجتمع في "فتنة" باسم الاسلام و"تقسمه" باسم الاسلام.

من ناحية أخرى يرى كركر أن إصلاح المجتمع أولى من إصلاح الدولة. وهي فكرة يتبناها بوضوح الشيخ راشد أيضا حيث يقول " الامر الذي يرجح عند التعارض بين مهمات الدعوة إصلاحا للناس وبين مهمات السياسة اصلاحا للحكم، ترجيح المهمة الاولى وذلك بقدر ما ينفسح في وجه حرية الدعوة والاتصال بالناس من فرص". ولان الدولة تقف في وجه حرية الدعوة فلا حل حسب الشيخ راشد إلا بان تنقلب المعادلة ولو مؤقتا حتى تنفسح امام الدعوة الحرية حينئذ ترجع المعادلة إلى أصلها.

هنا ندخل إلى المعضلة الأساسية وهي الدولة الحديثة، هذا "النبت الزقومي" الذي زرع في أوطاننا. الدولة التي أممت كل شيئ ولم تترك للمجتمعات حريتها واستقلاليتها. والسؤال المطروح هل أن الأجدى أن يكون النضال من أجل افتكاك استقلالية المجتمعات، أم أن الأجدى افتكاك الدولة وتحويلها لـ" دولة اسلامية" تعطي للمجتمع استقلاليته؟

الحقيقة والواقع اثبت أن الخيار الثاني أوقع الحركة الاسلامية في حبائل الدولة – التنين، وحول الإسلاميين الى أداة من ادوات الدولة، حيث ساهموا في بعض الدول التي وصلوا لسدة الحكم فيها في تحويلها من دولة بدائية الى دولة تسلطية التحقت بأخواتها من الدول التسلطية العربية الأخرى، وذابوا في بعض الدول الأخرى ولم يقدروا عل تقديم أي إضافة لإصلاح الدولة وإصلاح السياسة. وذلك بعض وجوه النقد الموجه للإسلاميين أنهم غريبون عن السياسة وفشلوا في ممارستها، حيث أنهم نشأوا كقوة إصلاح اجتماعي وليس كقوة إصلاح سياسي وعندما غيروا طريقهم للسياسة ضلوا وأضلوا.

لقد أكد كركر أن فكرته التي يدعو الإسلاميين اليها، تقتضي أن تفسح الدولة الحرية للمجتمع وتترك للمجتمع المدني استقلاليته الكاملة للقيام بدوره الإصلاحي والتنموي. ولكنه يبدو ميالا الى فكرة أن على الإسلاميين في كل الحالات أن لا يتخلوا عن مهمة الإصلاح الاجتماعي العام (الدعوة)، وأن يخوض من يريد منهم السياسة (طلب السلطة) بغير لافتة الإسلام، وأن يمارسوها في الأحزاب التقليدية وليس باسم الإسلام، حتى يبقى الإسلام المشترك الذي يجتمع حوله الجميع وليس الشعار الذي يقسم المجتمع.

يبدو أن كركر يعطي الاولوية لـ " السياسي" Le Politique على حساب السياسة La politique وأكثر من ذلك على حساب "البوليتيك" أي السياسة الصغيرة القائمة على الازدواجية والتكتيكات والمناورات الضيقة ومحدودة الافق التغييري والتي كلما غرقت في "التكتيك" أضاعت بوصلتها الاستراتيجية.

ورغم "الحملة" التي ووجه بها كركر، إلا أن حركة النهضة والشيخ راشد نفسه اقترب شيئا فشيئا من فكرته، التي كما قال كركر بحق، أن الحركة تبنتها فقط بدون تصريح من خلال عدم مطالبتها بتطبيق الشريعة، والتخلي عنها كبند في الدستور أو حتى قريب منها، مكتفية بما يتيحه الفصل الاول من تأويل. لا بل إن الواقع السياسي قد فرض عليها الفصل بين الدعوي والسياسي في مؤتمرها العاشر، وتقديم نفسها ليس كحزب ذو مرجعية اسلامية، بل كحزب "اسلام ديمقراطي" متبنية نفس المنظور الذي تعتمده الاحزاب الديمقراطية المسيحية في العلاقة بالدين، ومسوقة نفسها في الداخل وخاصة في الخارج على هذا الأساس.

هكذا في حين تبدو مراجعات كركر متأخرة عن مراجعات غيره وعلى رأسهم الشيخ راشد، إلا أنها - وبما ينسجم مع شخصيته ومزاجه - أكثر وضوحا وحسما، وأبعد عن ظلال الازدواجية، وأقل ترددا في ترتيب أولوياتها، وأقل افتتانا بالسياسة وبسلطان الدولة، وأكثر إيمانا بأولوية التغيير الاجتماعي على التغيير السياسي، وبأن الاستخلاف للأمة وليس للدولة.

كتبت هذا النص في ذكرى وفاته التاسعة (18\10\2021)، تعريفا برجل من رجال تونس البررة نحسبه كذلك والله حسيبه، ووفاء بحق السابقين علينا، فاللهم تقبل بلاءه فيك وفي دينك وأسكنه أعلى ربذ الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا.