search

مضامين المصالحة

مقتطف من نص كتبته صيف 2008 في إطار المبادرة التي تمت من طرف مجموعة قيادية نهضوية .... و إذا كان للنص تأثيرات اللحظة فإن خطه الاستراتيجي و قواعده الفكرية لا زالت صالحة لحوار عميق حول أسس الاصلاح الوطني .... تركت النص كما هو للقارئ و هو قادر على تمحيصه و فهم مستوياته و محاورته ( نقده).

#########################################################

_ في ضوء الضعف الشديد للظروف و العوامل الخارجية الضاغطة والتماسك شبه التام للجبهة الداخلية للنظام، فإن عنصر القوة (الضغط) الرئيسي للمصالحة هو مضمونها. و من الواضح أن خطاب الحقوق الانسانية والدستورية و الشرعية استنفد شحنته أو يكاد في التأثير على النظام. كما أن خطاب المصلحة العامة ووقاية البلد من المخاطر و تجميع طاقات أهل البلد في التنمية و البناء لا يقل عن الخطاب السابق شحا. مما يحتم وضعهما في خانة الروافد الثانوية للخطاب الرئيسي للمصالحة: أؤكد على خطابات رافدة و ليست مستقلة.

_ يجب أن يكون واضحا لدينا أننا مطالبون بمضمون يدفع النظام نحو المصالحة لا أن يكون شاهدا عليه في عدم قبوله ذلك.

_ إن الخطاب الجديد الذي يجب أن نرفعه تحتمه مبررات استراتيجية وتكتيكية. تستمد المبررات الاستراتيجية من إعادة التأمل في المرتكزات العقدية والأصولية (المنهجية ) لرسالتنا و موقعنا ضمن نسيجنا الاجتماعي و الحضاري من أجل صياغة رؤية تركيبية بين النص في مثاليته و تطبيقاته السالفة و الواقع ببنياته وتاريخيته. أما المبررات التكتيكية فهي متولدة عن استيعاب المضمون الاستراتيجي و الفقه الدقيق لتجلياته في اعتبار تاريخ العلاقة بين الحركة والنظام ليست مجرد حلقات تعاقبية و لا أحداث مستقل بعضها عن بعض بل إنها بنيات متولد يعضها عن بعض و ملتحم بعضها ببعض، و خطابنا ذاته بنية من تلك البنيات إذا حاولنا تجاهله فلن يتجاهله الآخر بل أقول أنه لا يقدر على تجاهله حتى و إن رغب في ذلك.

_ لا يجب أن ينبني خطابنا الجديد على فكرة عدم استبلاه الآخر فقط رغم أنها ويا للأسف لطالما شحنت خلفية خطابنا، بل الأهم من ذلك أن تنبني على فكرة شرعية الآخر في الاختلاف باعتبار أنها شرعية وجودية أولا و من ثم فهي شرعية شرعية إن جاز التعبير، و هي أيضا مشروعة باعتبار رابطة الاسلام الكبرى التي تجمع الجميع أو تكاد ، و رابطة الوطن التي تجمع الكل و تعطي مشروعية متساوية للكل . بمعنى أن نتعامل مع الجميع برأي "المصوبة": كل مجتهد مصيب. و المعيار في الاجتهاد هو الاسلام والوطنية بأي وجه من وجوه الاجتهاد المشروعة اجتماعيا من خلال تبنيها من قبل شريحة من المجتمع مهما قلت و خاصة جزء من النخبة، والقائمة على التدافع بالقول والعمل السلميين.

_ و المهم في الايمان بشرعية الآخر هي تجلياتها في نفسيتنا و في خطابنا بحيث نتعامل معها بأخلاقية عالية تستفرغ الجهد عند التعامل مع خطابه بحثا عن الصواب والحق فيه من أجل البناء عليه و قد يكون الحق زوايا نظر و مواقع رؤية وبالتالي فهو ممكن من الممكنات و من هنا شرعيته و مشروعيته. و هل القول ( المعنى) وحتى العمل( و القول عمل ) إلا تأويل وتموقع ؟

_ هل ينفي ما ذكر أعلاه شعورنا بأننا على حق و أننا نمثل الاسلام ؟ نعم هو ينفي ذلك بصورته المطلقة المتعالية الاحتكارية و هي مع الأسف موجودة في ثنايا خطابنا و ممارستنا ، ولكنه طبعا لا ينفيها في صورتها الواقعية بل لا يمس من حمولتها النفسية و العاطفية الدافعة والضرورية لتمثل الأفكار و تنزيلها في الواقع.

_ لقد انبنى خطابنا كسائر الخطابات الأخرى و أسلوبنا العام في التغيير على فكرتي الطلب وسيلة و الحق مضمونا : ما ضاع حق وراءه طالب. و يبدو لي بعد طول تأمل أنه من المفيد أن نتوخى استراتيجية جديدة قائمة على فكرة الواجب وهي مرتبطة بخيط عنكبوت (دقيق و متين) بفكرة تغيير ما بالأنفس . و فكرة الواجب هنا ليس معناها: ما الذي يجب أن أقوم به للحصول على حقي؟ في صورتها المباشرة المعهودة القائمة على الالحاح في الطلب وفرض الحق بوجوه المطالبات و الوسائل التي تصل بتسلسل مفروض بنيويا إلى اعتماد القوة بل العنف رمزيا و ماديا.

عندما نركز على فكرة الحق يتجلى الآخر كسالب وغامط له أما عندما نركز على فكرة الواجب يتجلى الآخر كوجه من وجوه عجزنا و عدم قدرتنا على اكتشافه و تغييره، وعوضا عن معنى التنافي الذي توحي به فكرة الحق - خاصة في شحنتها النفسية المصاحبة للمطالبات السياسية - تحل فكرة التعاون والبناء.

إن الخطاب القائم على فكرة الحق - ودائما بالنفسية التي انبنى عليها في ممارستنا - ينتهي بسرعة إلى خطاب اعتذاري وعنيف و حاسم ، بينما الخطاب القائم على فكرة الواجب يضل مفتوحا و باحثا لا يكل عن الاحتمالات و مشحونا بالأمل في التغيير.

_ لو كنا ننطلق من فكرة الواجب لكان تمسكنا بفكرة المصالحة لخمسة عشر سنة أكثر إيجابية و لكنا نعمل ليلا نهارا لا من أجل تحميل النظام المسؤولية في خطاب اعتذاري _ في أحسن حالاته _ لا يقدم في الواقع شيئا، و لكن من أجل تحويل النظام عن موقفه من خلال تحولنا نحن عن موقعنا بوجه يحسن التعامل مع زاوية النظر التي جعلت النظام غير متفاعل مع مطلبنا .

_ كنت أتساءل منذ زمن لماذا درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، حتى سمعت مرة فضل الله يقول أن هذا ليس دائما، و ها أني قرأت هذه الأيام للريسوني أن الأصل هو أن جلب المصلحة مقدم على درء المفسدة، و استدل بدلائل منها أن الأمر بالمعروف مقدم دائما على النهي عن المنكر.

و الحقيقة أننا في حاجة إلى مراجعة الأسلوب العام لمنهج التغيير عندنا يقوم على قاعدة الإيجابية في النظر للإنسان و المجتمع بل و الكون بأكمله. و من الطريف أنه حتى مقولة التدافع التي جعلناها مكان مقولة الصراع استعملت بهذا المعنى الايجابي في القرآن : إدفع بالتي هي أحسن ... الآية. و في الحديث : و أتبع السيئة الحسنة تمحها . و هنا حديث يطول ولكنه قاعدة من القواعد الأساسية لخطاب المصالحة.

_ استعملنا منذ بواكير صحوتنا حديث السفينة و لكننا دائما كنا نعد أنفسنا في الموقع الذي وضعه الرسول عليه الصلاة و السلام لنفسه و هو به أحق، و لم يدر بخلدنا أنه من الممكن أن نكون نحن سببا في إغراق السفينة حين نعتبر أنفسنا أننا الناطقون بالحق و حين نغفل عن سنن الله في الكون و الحياة.

_ هناك اتجاه معرفي و عملي يسود العالم الآن قائم على محورية الاتصال و التواصل في الشأن الإنساني و أيضا لما عداه صعودا و نزولا ، حيث يرجع نجاح أي شيئ أوفشله إلى موضوع الاتصال و التواصل .و المهم في هذا هو أن المعيار الحقيقي للقدرة على النجاح ليس طبيعة الأطراف، و قدرة هذا الطرف على التأثير في الطرف المقابل وتحويل أفكاره و قناعاته. بل إن النجاح متوقف على قدرته على التواصل معه. و هذا التواصل لا يسمح فقط بإمكانية تغيير الآخر و إنما أيضا حسن فهم الآخر وإيجاد منافذ أو زوايا التعامل معه .

كان الشيخ راشد يردد صيف 88 أن عدوي من لا يعرفني، و هذه و إن كانت تحتمل أكثر من وجه إلا أن وجهها الأبرز هو أهمية عنصر التواصل بل ومحوريته.

المهم في موضوع التواصل هو إعطاؤه للفكرة أوالمشروع ليس فقط وجهها المضموني من حيث أنها حق أو صواب بل أيضا وجهها العملي من حيث أنها ممكنة أو غير ممكنة، وأي وجوه الإمكان هي الأبعد أم البعيد أم الأقرب.

إن التواصل يجيب عن عنصر أساسي يميز الأفكار عن بعضها نوه به مالك بن نبي وهو عنصر الفعالية ، هذا الذي قد يمكن لأفكار لا خالصة و لا صائبة ، في نفس الوقت الذي يعتبر المحرك الفعلي لها في التاريخ.

إلى أي حد تعتبر أزمتنا مع النظام و مع النخبة أزمة تواصل ؟ هذا ما يلوح لي خاصة إذا رأينا الموضوع من زاوية الإطار المفاهيمي و النفسي الذي أدعو إليه والذي تعتبر هذه النقاط بعض معالمه.

_ و في إطار الفعالية اللازمة للفكرة تطرح البرمجة اللغوية العصبية فكرة التنقل بين المواقع للبحث عن المفاتيح الأنسب للتغيير. في الغالب الأعم يختار الإنسان لدى تصديه لموضوع ما موقعه هو أي كيف يرى هو المشكل و كيف يفهمه و كيف يتصور الحل له، و يحاول أن يكون علميا و موضوعيا أقصى ما يمكن في ذلك. و لكن هل جربنا النظر إليه من موقع الخصم ذاته؟ و هل جربنا النظر إليه و قد أخرجنا أنفسنا و الطرف الآخر من موقعينا ونظرنا معا إليه ؟ وأخيرا هل جربنا أن نراه من خلال نظرة طرف محايد له؟

في الحقيقة يحاول الإنسان أن يتموقع هذه المواقع، و لكنه يفعل ذلك بشكل محدود و لا واعي فتقل أو تنعدم استفادته منها. و يفعل ذلك _ و خاصة فيما يشبه موضوعنا من القضايا الإنسانية _ بمعيار رأيه و فكرته. هذا من جهة المضمون، أما من جهة الفعل، فإنه يركز فقط على سقطات الآخر أو غفلاته لاختراقها أولركوبها، أو البحث عن إمكان التحايل و الخديعة، مما يعتبر تكتيكا يشرعن له سياسيا وأخلاقيا و دينيا.و كل ذلك ليس هو الاتصال المطلوب المنتج للفعالية.

_ و بناء على ما ذكر نحن مطالبون بناء على تجربة طويلة من التموقع في موقع الذات، أن نغير موقعنا، و أن نضع أنفسنا في الموقع المقابل لنفهم بشكل أعمق ما هو المطلوب منا، ولنمحص بشكل مختلف مطالبه، من حيث شرعيتها سواء من حيث الصواب أو عدمه وكذلك من حيث مشروعيتها باعتبارها مطالب أحد طرفي المعادلة الذي لا تستقيم إلا به، ومن حيث إمكان البحث عن الفعالية في التعامل معها. و يمكن أن نسأل أنفسنا هل من الممكن و من المقبول أن نستمر في اجترار الخطاب الحقوقي بما فيه الخطاب التظلمي أكثر من ربع قرن ؟ هل من المعقول أن نردد من أول رسالة إلى آخر رسالة نفس السمفونية المطلبية والإعلانية العامة التي يكذبها واقعنا. و هل من المقبول أن نستمر في ترداد نفس العبارات تقريبا، و النظام قد راكم حمولة أطنان من الوقائع و الإقرارات، ويتابع بشكل شبه يومي من خلال أجهزته نفس الصورة.

أي تحول نوعي يمكن أن نقدمه للنظام كي يقتنع بأننا تحولنا و أننا صادقون في بعض ما نعلن؟

للأسف يجب أن نقر أن النظام ـ و النخبة أيضا ـ محقة فيما هي عليه من عدم التصديق فيما ندعيه من تحول، و أنها في ذلك لا تقاد فقط بحقد أعمى نحرص كثيرا على التركيز عليه، بقدر ما يقودها اعتبار مصلحي طبيعي و مشروع. من يقبل بأن يلدغ من جحر مرتين أو أكثر ؟! من يقبل أن يسوق نفسه للذبح حتى و إن لم يكن ذلك واقعا و إنما فكرة في الرأس؟! قد يضطر النظام لذلك لسبب تكتيكي، عندما يقدر أنه يواجه خطرا أشد أو أقرب، أو يعاني أزمة خانقة، أو يعيش حالة تصدع حقيقي. ولكن النظام لم يعش و لا يعيش هذه الحالات فما الذي سيدفعه لذلك؟!

هكذا يبدو المشهد ـ بكل هذه القسوة ـ إذا نظرنا إليه بهذا المنظار و من هذا الموقع . أما إذا اعتقدنا أن الأمور حق و ضلال و لا شيئ بينهما، و أصحاب حق وأصحاب هوى و لا ثالث لهما، و أننا المبتعثون بالهدى لمن ضلوا و أضلوا ، فليس كثيرا أن نقول : و الله لو وضعوا الشمس في يميننا و القمر في يسارنا، على أن نترك هذا التنظيم بخططه و أسلوبه، وهذا الحزب ببرنامجه و شعاراته، و هذا الاسم بألفاظه ودلالاته، وهؤلاء القادة برمزيتهم وتاريخهم، ما تركنا شيئا من ذلك حتى يظهرنا الله عليهم أو نهلك دونه!.

_ سيرد البعض بالنفس الاستعلائي الاحتكاري مما هو معروف حججه لدينا. و سيرد باستنكار اعتماد معيار الزمن و التجربة في تقييم الأفكار و الدعوات، التي هي عند التحقيق عقائد ثابتة لديه. و هو شيئ يكذبه التاريخ ذلك أن الدعوات كلما طال بها الزمن أصابها الوهن و غالبها الانحراف وفقدت فاعليتها، فلا تنهض إلا بتجديد يعيد بناءها على أسس جديدة. تجديد يطال الرجال أولا ثم الأفكار و يصل حتى للغة والشعارات . هذه سنة التاريخ القريب والبعيد، الخاص و العام .

و قد تعاملت التجربة الغربية مع هذه السنة الكونية بتطوير نظام الإدارة و القيادة بالمأسسة والتداول و الديمقراطية و غيرها من الآليات، التي تستمد قيمتها من خلال الإيمان بالفلسفة القائمة عليها و ليس فقط بإعلان القبول بشكلياتها.

_ أذكر أن نورة البورصالي كتبت نصا غاية في الأهمية، و عقب عليها عبدو معلاوي بنص مماثل. ووجه الأهمية في النصين ما يحملانه من تصوير لنظرة النخبة ومن ضمنها نخبة النظام للحركة و لأجندتها، حيث يمكن للقارئ أن يستخلص حجم التوجس لما يمكن أن تفعله الحركة، و الانشغال الكبير بما أقدمت عليه من أعمال مهما كان تواضعه، و التتبع الدقيق لما تكتبه و تعلنه. و قد كنا نحن نميل في الغالب إلى تقييم ردود الأفعال تلك من خلال التأكيد على عدائية أصحابها لنا الايديولوجي أو النفسي، و من خلال الطبيعة الاحتكارية والديكتاتورية لمشاريعهم، دون أن ننتبه إلى أننا في الحقيقة نتحمل جزء كبيرا من المسؤولية لهذا العداء و تلك الفوبيا، و أن النخبة و النظام ليسو من الغباء و البلادة بحيث لا يقدرون على التقاط الاشارات المتعددة بالقول و العمل و التي تخفي مشروعا إن لم نقل احتكاريا فهو ذو نزعة اكتساحية شمولية لا تخطئها العين.

صحيح أننا حاولنا تقديم خطاب تعاقدي و تشاركي و اجتهدنا في تنفيذه و لكن الصحيح أيضا هو أن ذلك الخطاب لم يستطع محاصرة الخطابات و الممارسات الأخرى التي مارسناها في ازدواجية صارخة، كما أنه أيضا لم يستطع محو ظلال الشك في الإيمان بقيم الديمقراطية حين يكون التلميح و أحيانا التصريح بديمقراطية عددية ( كما ذكر نجيب الشابي ) مأمونة النتائج لحركة احتجاجية معارضة لم تتلوث بالسلطة و تستعمل الرصيد الاسلامي لشعب مسلم. نحن لم ننتبه إلى أن الديمقراطية نظام تعاقد وترضيات تحقق من النجاح بقدر ما يكون التعاقد والتراضي فيها قائما على معيار تمثيلي سليم للنخبة، خال من التحايل و الغبن والغش، تزكيه الإرادة العامة بوجوه الاختيار الشعبي المعروفة.و هل يحل هذا الاشكال بمجرد القول بأنهم أيضا لا يؤمنون بالديمقراطية ؟! و هنا نرجع لمعنى الإيجابية لنقول إن المهم هو بماذا نؤمن نحن و ليس هم.