470 يوما بلياليها الطويلة وبردها الشديد ورياحها العاصفة ومياهها الغامرة وشمسها الحارقة وهجيرها اللافح وضيق أرضها واختناق أنفاسها.
470 يوما ونحن معهم لم نفارقهم.. نجد مواجدهم ونلقى من أوجاعهم.. نبكي لبكائهم ونقاسمهم أحزانهم ونضحك لضحكاتهم ونجد من مراراتهم.. وعند كلّ طعام نتناوله لا يحلمون بقليله نلقى غصّة تشبه فضيحة ونكاد نشرق عند كلّ جرعة ماء احترقت حلوقهم قبل وصولها.
نعاني معاناتهم.. ويتضاعف في كلّ يوم شعورنا بقهر قاتل أن لم نملك لهم حيلة ولم نجد إليهم وسيلة.
في أثناء السيّارة وأنا أعدل على كرسيّها جلستي وأرتّب من الأصوات رفقتي لم أعد أفعل كذي قبل.. تركت فيروز الصباح ونجاة النشوة ووردة الصخب ووهّاب الأناقة وعبدو الحنين وسيّدة عرش الليالي.. صادحة المصباح والأقداح والذكرى...
تركت جميع هؤلاء وتركت غيرهم.. لم أكن أسمح لنفسي بأن أسمع في السيارة غير قرآنهم أقاسمهم آياتِه أقرأه قراءَتَهم وأفهم منه ما يفهمون وألقى به من بشاراتهم نظير ما يلقون...
عبد الباسط عبد الصمد لا ينازعه في تلاوة الكتاب أحد.. كأنّه يستلّ صوته من السماء وعليه جمالها وجلالها...
470 يوما، كلّما سمعت عبد الباسط عدت إلى البيت أفتّش عن فهم لم أكن، من قبلُ، لقيته من كتاب الله المسطور. أسمعه فأفهم معنى وصفه "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" ،
أعود أفتّش عن "لو" كأنّ على ظهري الجبلَ ينزل الكتابُ عليه.
وكأنّي قد وجدت في زمن طوفان الأقصى نموذجا أفسّر به آي الكتاب العظيم.
طوفان من الأفكار والمعنى فجّرها فيّ قرآنُ الكتاب أرى ترجمته في طوفان الأقصى بغزّة. الأمر وجوديّ ثقيل جدّا يحتاج إلى مصافٍ للتّلقيّ وإلى طرقاتٍ للعبور.. وإلى معارج تبلّغني منازل صنّاع البطولة في أرض البشر في قرنهم الحادي والعشرين.
قاسيت من الألم حتّى ما عدت قادرا على النظر في وجه الألم. كان عجزي يواجهنى عند كلّ المرايا أراه فيّ أو أراني فيه.
وكانت الجزيرة بما تبثّه من بطولات المقاومة تخفّف عنّي ممّا أجد من ثقل الأوزار بما ترويه من بطولات الم/قاومة.. أنظر في جودة الصور وفي ثبات المصوّر حين تصويرها فأطمئنّ. لقد نجحوا في رواية البطولة في أثناء جريانها.. فأجد من جريانها ما يذهب عنّي بعضا من ظمئي الممضّ.
ارتقى القائد صالح العاروري في بيروت فقبضني خبر موته لِما فهمت من مقام الرجل من حركته ودوره في المقاومة.. تلك ذراع، في الحرب، قد سقطت.
ثمّ ارتقى القائد إسماعيل هنيّة في طهران فأحسست بتمزّقات في مختلِف أنسجتي.. ذاك رأس قد غادر المعركة إلى غير عَوْد.
ولمّا ارتقى سيّد العصا صعدت روحي لولا ما كان من مشهد عصاه وهبية ما صنع من مماته.. أحسست كأنّه اختار ميعاد ارتقائه وأعدّ معراج صعوده ورتّب بعنايته مشده الأخير... ليكون المعلّمَ في طرقات الأرض وإلى معاريج السماء. استقرّت روحي من زلزالها وابتلعتُ حزني ووجدتُني أرى بعينَي الشهيد أفق النصر المبين. القوّة لا تكفي لصناعة الانتصار والضعف لا يستصحب، بالضرورة، الهزيمة. تعلّمت من يحيا أنّ النصر صبرٌ وإرادة.. وعنفوان إلى رمق الحياة الأخير.
بقيتُ بينهم يقاسون قصف العدوّ من السماء وخذلان الأقربين على الأرض، حتّى اضطُرّ العدوّ المجرم إلى توقيف حربه عليهم ورضخ لشروط الم/قاومة وقبل بما أملته عليه الدماءُ النازفة.
ولأنّ الجزيرة، كما كنتُ، دوما أراها، كتيبة مقاوِمة وعين المقاوَمة كان لا بدّ أن يظهرَ الفتى العنيد ثامر المسحال على شاشتها ببرنامجه "ما خفيَ أعظم" ليشير بالعظيم الظاهر إلى الأعظم المخفيّ.
وكان مشهد البطل المهيب وهو يتوكّأ على عصاء بين الأنقاض يسير على أرض غزّه كأنّه بنعله المقدّس يجسّها ويداوي بأنَاتِه الواثقة جراحَها النازفة ويهوّن من أوجاعها،
ورأيناه يرقب من شرفته آثار بطولته ويمتدّ بصرُهُ العنيدُ إلى أبعد،
ثمّ رأيناه ينشد بيت أحمد شوقي
وللحرية الحمراء باب *** بكلّ يدٍ مضرَّجة يُدَقُّ
ينشد بيتا نعرفه من سِفْر الحرية كما لم ينشده من قرّاء العربية، من قبلُ، أحد بصوت يتغذّى من بريق عين واثقة بالنصر.
كأنّ أبا إبراهيم، وهو يشير إلى العدسة بسبّابته اليمنى وفي قبضته مسدّسه وفي يسراه طرفُ إزاره، كأنّه يضع السطر الأخير في مسيرة عمر جلّله بعظائم الأعمال.
لا أظنّه أضاع من عمره لحظة وهو الذي قضّى نصف عمره خلف جدران المعتقلات يتعلّم لغة العدوّ ليتمكّن، بعد حين، من أن يقود غزّة إلى أن تأمنَ بالعلم والإيمان شرَّه. لقد كانت اللغة مفتاحًا فتح به يحي باب الحرية على مصراعيه.
لعله ليس من الصدفة أن يرتقيَ البطل العظيم وقد أتمّ، في الأرض، كمثل سفراء السماء، من العمر نظيرَ ما عاشوا.. وغادر بعد أن أدّى الأمانة.. أتمّ عمره مع آخر صفحات رسالته.. ومضى إلى منازله من سماء.
عاش عمرا كانت آخر لحظاته العصا..
ولغزّة في عصا السنوار مآرب أخرى...
رحم الله
مفجّر الطوفان
وسيّد العصا
تاريخ أول نشر 2025/1/27