لا يمكن أن يجادل عاقل أن معركة الترشيحات قد أزعجت المنقلب أيما إزعاج، ودفعته الى ارتكاب الحماقات تلو الحماقات، وأنها زادت من تجريده من لبوس الشرعية الذي كان يحاول أن يغطي بها عورته.
ذلك أن صمود المترشحين، وحرفية فرقهم القانونية، والموقف المشرف للجلسة العامة للمحكمة الإدارية ورئيسها قد ذهب بما بقي من صواب في عقل المنقلب إن كان له عقل.
علينا أن نعترف بشجاعة وصمود السيد العياشي زمال واستماتته وتصميمه على خوض المنازلة لآخر مرحلة من مراحلها.
لا يشك متابع وعارف بالمنقلب، أنه لن يتورع عن مواصلة استعمال كل وسائل الضغط والاعتداء على القانون والحريات، وحتى على الصندوق، من أجل أن يفرض نفسه على التونسيين.
وما مشروع تنقيح القانون الانتخابي إلا سلسلة من سلاسل الاعتداءت التي يرتكبها، ولن يقف دونه.
وبالنظر إلى استعدادات الساحة النضالية نخبا وأحزابا ومنظمات وشعبا، يتبين لنا أنها حاليا أقدر على خوض هذا النوع من النضالات، الذي يتحرك وفق ما يتيحه القانون وما لم يقدر المنقلب على سد منافذه.
ارتكب المنقلب خطأ بقبوله ترشح العياشي الزمال لأسباب لا زالت مجهولة. لكنه يتصرف الآن بكل وسائل التنكيل معه، من أجل حرمانه من القيام بحملته، واستعدادا لإلغاء أصواته التي سيتحصل عليها.
لم يرد في مشروع تنقيح القانون الانتخابي تغيير في إجراءات عملية الفرز بحيث يتمكن من تزويرها، إلا في صورة إخلاء مراكز الفرز من ملاحظي العياشي زمال والملاحظين الآخرين. مما يعني أنه لحد الآن لم يفكر في سرقة الأصوات. ولا يستبعد أن يقوم بذلك فليس لجنونه حدود.
هل بقي للعملية الانتخابية من معنى بعد الذي جرى والذي يمكن أن يجري؟
نعم بالتأكيد، لا زال لها معنى في ضوء المحددات التي أسلفنا الحديث عنها، باعتبارها القدر المتاح والممكن من النضال السياسي والشعبي في الوقت الراهن، وأيضا باعتبارها التراكم الذي من الممكن أن يصل بالاوضاع إلى رد فعل قد يحول النضال إلى مرحلة التظاهر والاعتصام في الشارع، مما ينقل المقاومة من الإطار القانوني إلى الإطار الشعبي.
لا شك أن التنكيل بالسيد العياشي زمال قدم ويقدم له حملة انتخابية مجانية، وهي أفضل ما قدمه غباء المنقلب للعياشي زمال، مقابل ذلك التحديد الفاضح لميزانية الحملة الانتخابية وتغييبه عن إدارة حملته بشكل مباشر.
لا أنكر الانقسام الذي يشق القوى المناهضة للإنقلاب بين المقاطعة والمشاركة. لكنه انقسام سببه التشتت الذي تعيشه تلك القوى، واستمرار الخلاف حتى هاته اللحظة، ليس له من فائدة في مسار مقاومة الانقلاب أو أن فائدته محدودة جدا. كان هذا الخلاف مشروعا قبل الدخول في المسار الانتخابي، وكان يجب أن يتم الحسم آنئذ فيه، حتى يكون له معنى ويمكن البناء عليه. ولكننا في كل الحالات لا نطمح أن يختفي ذلك الخلاف، والمهم والمطلوب أن تكون الكفة راجحة للخيار الأقرب للتحقق والنجاعة.
بقي السؤال المهم: ونحن نساند السيد العياشي زمال في معركته الانتخابية، مالذي يضمنه لنا إذا دعمناه وحشدنا الناس للتصويت له ؟
لا يمكن أن نخفي أن السيد العياشي زمال مرشح الضرورة، وعليه أن يكون واعيا بذلك. كما لا يخفى أن السيد العياشي زمال يخوض انتخابات تفتقد الشرعية القانونية من أوجه عديدة، وهي بالتالي مطعون سلفا في تعدديتها وفي حريتها وفي نزاهتها وشفافيتها، ويمكن لأي قضاء مستقل أن يحكم بذلك في أي وقت من الأوقات بمجرد الاعتراض عليها.
إنما تأتي أهميتها وضرورة خوضها باعتبارها السبيل الممكن والأقل كلفة من أجل الإطاحة بالانقلاب أو الاثخان فيه.
معنى ذلك إذا فاز السيد العياشي زمال بإعلان هيئة الانتخابات، أو من خلال نزاع قضائي، وهما احتمالان مستبعدان، أو من خلال تطور حالة المقاومة، واستلم الحكم بسند شعبي أو بمساندة قوى الدولة أو بهما معا، فإن ذلك لا يعطيه الشرعية الكاملة كي يحكم وكأنه فاز في انتخابات تعددية وحرة ونزيهة وشفافة. ذلك أن الذين سينتفضون و سيساندونه إنما يفعلون ذلك من أجل التخلص من الانقلاب، وليس من أجل أن يمنحوا السيد العياشي زمال صك الحكم، وكأنه فاز في انتخابات تامة الشروط الشرعية. وهذا لا يعني أنه لا يوجد من سيصوت له اقتناعا به وببرنامجه.
على السيد العياشي زمال حتى يقنع التونسيين بالخروج يوم 6 أكتوبر بكثافة تسمح له بالحصول على المركز الأول وربما الفوز من الدور الأول، أن يعبر عما يطمئنهم من أنه سيقود مرحلة انتقالية بخارطة طريق واضحة شعارها: العودة بالبلاد من حكم الفرد إلى حكم المؤسسات. ومن حكم البطانة إلى حكم الهيئات الممثلة. ومن حكم المراسيم وشبه المراسيم إلى حكم الدستور والقانون.
وسواء كان السيد العياشي زمال من أنصار النظام الرئاسي أو النظام البرلماني فإنهما كنظامين برغم الاختلاف بينهما، لا ينطبقان على نظام رئاسوي يحكم خلاله الرئيس خارج سلطة تشريعية ورقابية على أعماله. فالبرلمان ضمانة له كي يحكم كرئيس إذا كان من أنصار النظام الرئاسي، وبدون برلمان منتخب انتخابا حرا مباشرا ونزيها وشفافا، فإنه سيكون نظاما رئاسويا، لا تنفع معه النوايا الحسنة ولا جيش الخبراء والمستشارين الذين قد يحيط بهم نفسه ويغرونه بأنه يحكم بالعدل وهو على سراط مستقيم. وأن انتخابه المباشر من الشعب ولو كان ذلك في انتخابات حرة لا يسمح له بإصدار تشريعات من أي نوع كان تترتب عليها خيارات مستقبلية للبلد.
وقد استمعت من عضو في حملة السيد العياشي زمال إلى ميثاق سياسي يتقدم به السيد العياشي زمال إلى الأطراف التي يمكن أن تدعمه، وبقدر ما يحمل الميثاق عموما نفسا إيجابيا إلا أنه يفتقد الدقة والوضوح الكافي.
كما أنني قرأت البرنامج الانتخابي وعنوانه: الميثاق، ولكنه وإن كان مكتملا من الناحية الفنية العامة، إلا أنه أيضا مصاغ بطريقة تجعل من يقرأه وكأن صاحبه سيحكم بطريقة عادية ... وكأنه سيحكم وحده.
وهناك ضمور واضح للجانب السياسي في البرنامج، وابتعاد عن تقديم رؤية واضحة في المسائل الخلافية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد صيغ البرنامج بخلفية عدم استفزاز أي طرف، لكنه في جوهره تجاوز لأهم الخيارات التي جاء بها دستور 2014 ألا وهي النظام البرلماني والحكم المحلي.
كما لا يحمل أي بوادر خروج من النمط التنموي الذي هيمن على البلاد منذ ما يزيد على 150 عاما، عدا الحديث العام عن الخروج من اقتصاد الريع. وكل ما في البرنامج يرتكز على فكرة أساسية قائمة على أن المشكل الرئيسي هو في الحوكمة الرشيدة وليس في الإعاقات الهيكلية للمنوال التنموي الذي تتنوع صوره ودون أن يتغير جوهره كما أسلفت.
لكل ذلك فإنني أدعو السيد العياشي زمال وأدعو القوى التي تدعمه أو ستدعمه إلى توقيع ميثاق سياسي لمرحلة انتقالية تهيئ البلاد إلى استئناف ثورة الحرية والكرامة نحو مرحلة أكثر حرية - وقد تكشفت لنا صور الحرية المنقوصة التي غفلنا عنها واكتوينا بنارها منذ الانقلاب - وأقدر على تحقيق كرامة التونسي في العيش الآمن الكريم والاستقلال الوطني .
وفيما يلي مقترح ميثاق سياسي للمرحلة الانتقالية بين السيد العياشي زمال والقوى الداعمة له:
- الدخول في مرحلة انتقالية تنتهي في أجل أقصاه ستة أشهر، تبدأ بهدنة سياسية وتنتهي بانتخابات تشريعية،
- الغاء دستور 2022 وجميع المراسيم التي تم اصدارها في الفترة الممتدة من 25 جويلية 2021 و6 اكتوبر 2024،
- حل جميع المجالس النيابية المشكلة منذ 25 جويلية 2021،
- يتقدم الرئيس بمشروع دستور تنقيحا لدستور 2014 أو دستورا جديدا للبرلمان الجديد الذي سينتخب في غضون المرحلة الانتقالية. ويعرض على استفتاء بعد إجازته من البرلمان،
- إصدار مرسوم لإعادة انتصاب المجلس الأعلى للقضاء الذي تم حله مباشرة بعد استلام الرئيس لمهامه،
- إصدار مرسوم يتم بموجبه انتصاب المحكمة الدستورية بالعدد الذي تم اختياره مضافا إليهم تعيين الأربعة الممثلين للرئاسة على أن تستكمل تركيبتها أو تنقح من طرف البرلمان الجديد الذي سيقع انتخابه وفق الصيغة النهائية للدستور،
- إعادة تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات والهيئة التعديلية للاعلام بصيغة تشاركية.
- تفعيل دور الهيئات التعديلية الدستورية لحين صدور التعديلات الممكنة في الدستور الجديد وكذلك تمكين هيئات الرقابة من كافة الامكانيات لتفعيل دورها،
- إيقاف المحاكمات واطلاق سراح فوري لجميع القيادات السياسية الوطنية والمساجين الذين سُجنوا على خلفية أنشطتهم السياسية أو الإعلامية أو المدنية أو الفنية أو الاقتصادية منذ 25 جويلية بموجب عفو خاص يصدره الرئيس، ثم عفو عام من البرلمان الجديد لمن لم يتم حفظ ملفاتهم أو لم يحكم لهم بالبراءة، والتعهد بتخفيض عدد سجناء الحق العام وترك من هم في حالة إيقاف على جرائم خفيفة ومخالفات وقضايا الشيكات في حالة سراح،
- تشكيل حكومة كفاءات وطنية تسير دواليب الدولة في المرحلة الانتقالية وتعمل على إعداد مشروع مخطط تنموي متكامل يعرض على المؤتمر الوطني ويعتمده البرلمان الجديد.
- تنظيم مؤتمر وطني مفتوح لكل القوى الوطنية ويُتوّج باصدار ميثاق اقتصادي واجتماعي وسياسي جديد يُكرّس مبادئ العيش المشترك، ويُدخل تونس عهدا جديدا عنوانه العمل والانجاز والتميز.
تاريخ أول نشر 2024/9/21