منذ أسبوع احتفل السوريون في مدينة حماة بذكرى مجزرة حماة، التي دامت حوالي شهر، وتم فيها مسح مربعات سكنية وهدم مساجد بالمدينة، وقتل حوالي 40000 حموي من الأطفال والنساء والشيوخ فضلا عن الشباب والرجال. وفوق القتل والتدمير اعتقال الآلاف من النساء والرجال، وارتكبت في السجون فضائع من القتل الجماعي بالآلاف فضلا عن الاغتصاب وأسوء أنواع التعذيب من المؤكد أنه اهتز لها الحجر والشجر الذي يسبح بحمد الله .
أذكر أنه وصلتنا استغاثة الأخوات السوريات في سجون الطاغية وهي تستصرخ العالم لهول ما تتعرضن له من كل أنواع العذاب وعلى رأسها الاغتصاب.
بعد نيف وأربعين عاما تنتصر الثورة السورية، ويسقط نظام القهر والإبادة، وتنظم حماة ذكرى المجزرة في يوم مشهود امتلأت فيه الساحات، وصدحت الحناجر، وقدمت وزارة الدفاع الجديدة استعراضا عسكريا مهيبا، وامتطى صهوات الجياد الحمويون يستعيدون مواكب النخوة والعزة والبطولة والفروسية، وازدانت الواجهات بأعلام سورية الحرة، وصور المجاهدين الحمويين الأبطال، وعلى رأسهم ابنها البار الشهيد مروان حديد، مفجر أول مواجهة مع النظام البعثي سنة 1964، ومجدد المواجهات معه حتى استشهاده تحت التعذيب في سجن دكتاتور سورية الأول حافظ أسد سنة 1976.
مروان حديد ... اسم تلقفناه ونحن نتابع بواكير الثورة السورية ... كانت تأتينا أخبار بطولاته مختلطة بحذر شديد وعتاب بدأ همسا ثم تعالى ... خاصة بعدما انكسرت الثورة ... ككل المعارك في التاريخ ... عند الانكسار، يلتفت المنكسرون نحو بعضهم يتلاومون، وربما يتصارعون وقد يقتتلون.
استمعت لشهادة عدنان سعد الدين المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، وقرأت مذكراته في خمس أجزاء، تحدث عن مروان حديد الذي كان معه في أسرة تنظيمية واحدة طيلة 14 سنة، كان كلامه لا يتجاوز تبرئهم من أن يكون مروان قد فعل ذلك بقرار من الجماعة، لكنه كان يردد أن مروان رجل باع نفسه لله ... لم يجاروه في قراره، لكنهم لم يشهروا به ولم يشككوا في تجرده وإخلاصه.
أعدم مروان قبل مجزرة حماة بسبع سنوات، ولكن الثورة لم تقف، وتواصلت حتى بلغت ذروتها في مجزرة حماة.
اليوم يعود أبناء مروان، وأحفاد مروان، وبعض رفاق مروان الذين نجوا من المجزرة، وأهل حماة كلها، والسوريون جميعا يستذكرون مروان وصحبه ومن لحق بهم من بعدهم، وفاء لهم وعرفانا لفضلهم وتقديرا لجهادهم، واعتبارا صادقا أن بذور ثورتهم قد زرعها مروان وصحبه وآخرين من غيرهم، وإن دماءهم الزكية هي التي أنبتت من بين الصخور وفي الأرض اليباب زرعا قاوم كل الأعاصر حتى أزهر في شتاء 2024 فتحا عظيما.
ملاحم التحرير التي أسفرت عن صور مذهلة مع طوفان الأقصى، قلبت الموازين في الميدان، وزلزلت المسلمات في عالم ظالم، وفرضت تحولا استراتيجيا في موازين القوى، ما كان لها أن تبلغ ذلك لولا الاستعداد الكبير لدفع أثمان باهضة على جميع المستويات، أظهرت فيها المقاومة بأجنحتها السياسية والعسكرية أنها مستعدة لذلك بدليل صمودها الأسطوري.
وحين تتكشف تفاصيل سير المعركة ستزداد صدمتنا من القدرة المذهلة على إدارة معركة إبادة وانتزاع نصر على حرب "غربية" معززة بمشاركة "عربية" فاجرة. ولكن لا يمكن أن يماري عاقل بأن تكاليفها أيضا تجاوزت كل تقدير وأن الله ربط على قلوب الغزاويين ورجال المقاومة كي يستقبلوا تلك الأثمان بقيقين المؤمن بالله والمتسلح بالصبر الجميل أمام هول الأثمان التي يدفعوها ولا يزالون أمام خذلان لم يبلغ في أي وقت مبلغ ما بلغ.
وبقدر اعتزازنا وافتخارنا بتلك الملاحم الملهمة، فإنها لن تنسينا ملاحمنا في مقارعة "الغاصب الداخلي" في معارك التحرر من "الدكتاتورية". كما أنها يجب أن تعيد لنا توازننا النفسي كي لا تهزمنا "أخطاؤنا" الهزيمة النفسية التي هي سلاحنا الأقوى في مواجهة أعدائنا قبل قدرتنا على التفكير والتدبير وإدارة الصراع. الصراع الحقيقي والأساسي هو صراع موازين القوى على الصعيد النفسي قبل الصراع على الميدان وبأدوات التخطيط والتمكن الميداني.
لقد انشغلنا بالحديث عن المظالم التي سلطت علينا واستبد بنا خطاب المظلومية، وكان أحرى بنا أن نتحدث عن ملاحمنا في مقارعة النظام القمعي. ملاحمنا في التصدي للظلم والعدوان على كرامة الانسان، ملاحمنا في الدفاع عن الحرية للجميع، ملاحمنا في المنازلة في ميدان تخوننا فيه موازين القوى المادية وتقوي عزائمنا فيه موازين القوى الأخلاقية والعقائدية.
لقد كنا ممتلئين بشرعية حقنا في الدفاع عن الحرية والتعددية والعدالة والكرامة. وبذلك الامتلاء تصدينا ووقفنا أحيانا لوحدنا أو بمشاركة محدودة من غيرنا. وحين كان غيرنا منشغل بنضاله "ضد الظلامية" كنا نحن منشغلين بنضالنا "ضد الدكتاتورية"، كي ننعم نحن وخصومنا بمن فيهم صاحب "ضد الظلامية" بالنور الحقيقي المفقود في بلدنا ألا وهو نور الحرية.
لقد كانت معارك شرف، ومنازلات أحرار، وملاحم بطولة، بذلنا فيها المهج والأرواح، ولم يوقفنا لخوضها تقاعس الرفاق ولا حسابات الحذاق.
يذكر الشيخ راشد أنهم ذهبوا للمرحوم أحمد المستيري سنة 1986، عارضين عليه قيادة المعارضة من أجل إسقاط بورقيبة. وعبروا له عن استعدادهم لخوض نضال حقيقي وميداني لإحداث تغيير آت لا محالة، فلم نتركه للمجهول؟
لكن المستيري اعتذر، واضطرت الحركة – خاصة بعد ضرب الإتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه الحبيب عاشور - لخوض مواجهة كانت فيها تدافع عن حقها وحق غيرها في التغيير.
كانت ملحمة حقيقية امتدت حوالي ثمانية أشهر، وصمدت فيها، وأبدعت أساليب نضالية راقية في النضال المدني أذهلت المراقبين.
وككل المعارك الضارية مع أنظمة سليلة المستعمرودولة تسلطية بنيت على احتكار كل وسائل القوة المادية والمعنوية، استعملت فيها تلك الأنظمة كل وسائل قمعها وخبثها.
وكان طبيعيا أن يتصاعد الدفاع عن النفس إلى كل وسيلة يملكها الضعيف لمواجهة القوي. ولكنها لم تخرج عن النضال المدني الذي يعد ما خيض فيه في ذلك الزمن ملحمة بأتم معنى الكلمة.
وأنا أتابع ملاحم التحرير في غزة، أستذكر ملاحمنا وأستذكر رجالنا، الذين تجردوا لله أولا، وللدفاع عن الحرية، وتركوا وراءهم كل غال ونفيس، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
ذكرني بيت الضيف ببيوتنا وبيوت قادتنا، التي لم تكن تحوي داخلها إلا أواني بلاستيكية وحشايا اسفنجية وبسط بلاستيكية. ذكرني بـ"الإخوة والأخوات" وهم يتجهزون لمظاهرة 23 أفريل 1987، وبعضهم قد اغتسل وترك وصيته، لا يأمن من نظام قمعي أن يستعمل الرصاص، فمنذ عام فقط كان قد قتل برصاصه الشهيد عثمان بن محمود بدم بارد. ذكرني ملاحمنا في الإصرار على التظاهر في مظاهرات ليلية خالدة في 10 رمضان و17 رمضان و27 رمضان، وفي مظاهرة 16 جويلية وغيرها من المظاهرات في العاصمة وفي الجهات فضلا عن الجامعة. ذكرني صمودنا في الميدان، وإصرارنا على الاستمرار في النضال رغم الانكشافات الأمنية الكبيرة، واعتقال الآلاف من الأعضاء والقادة. ذكرني علي العريض والفاضل البلدي وهما يدليان بحديث صحفي تعقيبا على حكم المحكمة الجائر بإعدام ثلة من كرام إخوتنا بمن فيهم العريض نفسه، وهما على بعد أمتار من ثكنة بوشوشة. وغير ذلك من الذكريات الملحمية من قبل ومن بعد طمرناها تحت خطاب المظلومية الذي جعل أحد الأفاكين يسأل بكل نذالة: "بقداش كيلو النضال؟"
معركة تواصلت حتى فجر السابع من نوفمبر، حين اختارت بإيمان وإصرار نخبة من خيرة أبناء الوطن وضع رؤوسها بين أكفها من أجل وضع حد لمحرقة كانت ستنتقل إلى قطع الرؤوس بالجملة، ولكن الله سلم.
كان سباقا محموما بين الحركة وبين العجوز الدكتاتور، وكانت الحركة الأسبق حيث دفعت النظام إلى قراره بإزالة العقبة حماية لنفسه... وسقط بورقيبة.
ذهب الرأس وبقي الجسد، فلم نستسلم وخضنا ملحمة ثانية، وكالعادة لم نخترها وإنما فرضت علينا، واستطاع النظام أن يكسر شوكتنا، لكننا لم نستسلم وواصلنا ملحمة الصمود المشرفة في السجون وفي السجن الكبير وفي المهاجر.
صحيح أننا امتحنا امتحانا شديدا، لكننا صمدنا وثبتنا وقاومنا وانتزع البعض منا نجاحات في تلك الظروف الحالكة، وصمدت الحركة في الحد الأدنى باستمرار رعاية أبنائها وبقي نضالها الحقوقي والسياسي والاعلامي، وكانت في طليعة أغلب إن لم يكن كل المبادرات السياسية، وخاضت تجربة مهجرية فيها من النجاح بقدر ما فيها من العذابات أو يفوق ذلك. انتشرأبناؤها في حوالي 50 بلدا في العالم، واستطاعت التغلب على مؤامرات النظام وحملاته ضدها فأثبتت مدنيتها وسلميتها.
ملاحم حقيقية ونجاحات حقيقية وصمود أسطوري، شوش عليه ما كنا نعانيه من جهة أخرى من امتحانات ثقيلة مرت بها ومر بها عدد غير يسير من أبناء الحركة في الداخل والخارج. ولكن كل ذلك كان ضريبة النضال الطبيعية.
وفي الميدان ... من الطبيعي أن ترتكب الأخطاء في التقدير وفي الممارسة وفي رد الفعل، وفي طبيعة الحركات التي تضطر للسرية وتخوض نضالات ضد أنظمة متمكنة من القصور البنيوي ما يجعلها ترتكب الأخطاء وتقع في المنزلقات.
ومع ذلك فإن الحركة كانت حين تؤوب إلى نفسها، وتدخل في تقييم أعمالها كانت في غاية القسوة في تقييم أدائها ... أحيانا تشعر أن الجهود التي تنقدها من خارجها لم تبلغ نصيف ما تقوم به من نقد داخلي سواء من قبل المؤسسات أو من أفرادها.
ومع ذلك كانت ولا زالت تتحدث عن نقد أكثر جذرية وأكثر منهجية وأن يتجاوز النقد تقييم الآداء إلى محاسبة المؤسسات ومحاسبة القادة والفاعلين.
لم تكن مرحلة الثورة وما بعدها تقل عن سابقاتها ملاحم وبطولات ولكن عين الحاضر بطبيعتها قاصرة ... فالموازين القسط تحتاج المسافة الزمنية التي تهدأ فيها النفوس، وينجلي فيها الغبار كي تتضح الرؤية. وصخب المعارك لا يساعد على التأمل الهادئ وحرارة المشاعر تفقد الناظر حصافة العقل، وكم من معارك وأحداث احتاج أصحابها زمنا غير يسير كي يكتشفوا زوايا نظر أخرى لم تكن تسمح ظروف الحدث في إبانه القدرة على رؤيتها.
ولكن الإنسان مطالب بطبيعة الحال بأن يتعاطى مع الأحداث و"قدرها يغلي" ولا يعصمه من مطبات الانزلاق إلا الاعتصام بالشورى والديمقراطية، وهي وحدها التي قد لا تنجيه من الوقوع في أخطاء تفرضها جدليات الصراع وممكنات الواقع، ولكنها تعصمه من حيث التماسك النفسي الذي هو العدة التي لا يمكن السير بدونها.
مما يؤلمني أننا مقتصدون حد البخل المذموم شرعا في كتابة سرديتنا. وإذا كتبنا فإننا أميل إلى كتابة الحديث عن المظالم والعذابات. لكننا لا نكتب عن ملاحمنا ونجاحاتنا وصمودنا وثباتنا. وكثيرا ما ننتكس أمام أي هجوم يقوم به أفاكون تحصنوا في زراديب دولة تسلطية وقاومونا من وراء جدرها بكل ما توفرت لديهم من وسائل إكراه السلطة المادية والمعنية وننكفئ إلى خطابات الدفاع ورد الفعل نلهث للرد على زورهم وبهتانهم، وكثيرا ما انخرطنا في مخططاتهم التي تجعلنا أكبر سند لتثبيتها وامتداد تأثيرها النفسي في العقول والقلوب.
وأختم بما كنت نقلته عن المناضل سعيد بوعجلة أكثر من مرة: لا شك أن الحركة قد ارتكبت في مسيرتها أخطاء كثيرة وبعضها أخطاء مكلفة جدا، ولكن خياراتها الكبرى والمعارك التي خاضتها بل قادتها كان خيارات صحيحة وأن ما بذل في سبيلها وما حصل فيها من اخطاء طبيعية واردة الوقوع في ساحة ممتلئة بالفاعلين وبالخصوم الشرسين من الداخل والخارج. فمعارك الهوية والحرية والديمقراطية معارك "كسر عظم" و "كسر ظهر" والنجاح فيها أن لا تقسمك.
وإن اشتداد المعارك وضراوتها دليل على أنك تسير في الطريق الصحيح، فعليك أن تتجلد وتستمسك بقيمك الكبرى، وتواصل زحفك، مع الإدراك التام أنك كلما خطوت خطوة كلما ثار غبار النقع أكثر، وما عليك إلا أن لا تجعله يحجب عنك طريق النصر وسرادقه المنصوب الذي ينتظرك.
تاريخ أول نشر 2025/2/6