search

من جديد بين الشيخ ونخبته ... العدل في الميزان.

شاهدت منذ مدة الحلقة الحادية عشر من رواية الشيخ حسن الترابي في شهادته على العصر. ووجدتني امام الشيخ الترابي في أضعف حالاته، وهو يحاول الإجابة على أسئلة الصحفي المدقق المحقق احمد منصور.

لم تستطع عبقرية الترابي، وبراعته التي شدت كل محاوريه من الشرق والغرب، أن تصمد امام الأسئلة المباشرة والدقيقة والمحاصرة حول تجربة الانقلاب وقيادة الحكم.

لم يداخلني شك في قوة حجة الترابي التنظيرية، ولا زالت صدارته للتنظير السياسي الاسلامي المعاصر بدون منازع في تقديري، ولكن الترابي كزعيم مباشر للحركة والانقلاب والحكم "الإنقاذي" مني بخيبات وانكسارات لا تقبل المجادلة. ومنها كيف يقوم داعية الحرية الاول في عالم الإسلاميين بالتخطيط والتنفيذ لانقلاب على حكم ديمقراطي، وكيف ينفلت زمام المبادرة في هذا الخيار "الاستثنائي"، ويتحول طريق الحرية الى طريق للانقلاب على ما كان يبشر به من قيم "الطهارة السياسية ".

لقد فرضت الشمولية والازدواجية والسرية على الحركات الاسلامية وخاصة على قياداتها وبالأخص على زعمائها انفصاما في الشخصية، بسبب تعدد الأدوار والمواقع التي على الزعيم ان يتقلبها اختيارا واضطرارا. اذ يسعى الزعيم الى ممارسة قناعاته تنظيرا وممارسة ككل إنسان مسؤول بله عندما يكون زعيما، كما عليه ان يقبل ويمارس بكل حرفية حتى تلك القناعات التي يفرضها عليه الوعي الجمعي او منطق الحركة الداخلي او الضغوط العملية التي تمارسها عليه النخبة التي تشرف معه على ادارة الحركة.

واذكر انني في سنة ٩١ كنت اتجاذب الحديث مع مندوب الحركة الاسلامية في السودان في المغرب حول ما أسموه وقتها مؤتمر الحوار الوطني في القضايا السياسية، الذي بدأ بخطاب توجيهي من الترابي بسط فيه أفكاره المرتكزة على قاعدة الحرية، حيث المح المندوب الي بما يشي بتعامل النخبة مع ما يطرح. فرغم أن للشيخ مكانته ولأفكاره أهميتها، غير أن الوعي الجمعي النخبوي لا يقبل بها كلها، وهو يتعامل معها بانتقائية تقتضيها بحسب رأيهم "مصالح الحركة".

وبالقدر الذي لم يكن يداخلني فيه شك في دور الترابي المحوري، فإنني لا أشك أيضا في أن كثيرا من مفاصل ذلك الدور أداها ويؤديها انطلاقا مما يسمى التزام "قرار الجماعة"، لا بل عليه أن يبرع في أدائها وفي الدفاع عنها، ومنها الموقف من إعدام محمود طه وإعدام العسكريين البعثيين. وقد كتب عبد الوهاب الأفندي مبكرا حول هذه الإشكالية في كتابه : السودان: الثورة والاصلاح .

إن حالة الانفصام التي تحدثنا عنها، بقدر ما تظهر في الأول على أنها مجرد تأدية أدوار، تتحول بمرور الوقت الى حالة انفصام نفسي أيضا، وتشكل مع نوازع السلطة وأشياء اخرى حالة عصية عن العلاج.

قد يكون في كلامي بحثا عن تبرير، ولكنني لم أقصد ذلك، ولا حاجة لي به، وما أريد إبرازه هو ما أسميه الوجه الاخر أو الوجوه الأخرى للحقيقة.

هناك جدل قديم ومستمر حول "قوى التغيير" و"الفاعل الاجتماعي" و"الحامل للتاريخ"، حول دور "القائد" ودور "الكاريزما"، حول "النخبة" و"البطانة"، حول "الفرد" و"المجتمع"، وغيرها من الفواعل. والتي هي عند التحقيق كاشفة لوجوه الحقيقة المتعددة، تكبر وتصغر أدوارها بفعل محددات النشأة والتكوين ومنعطفات السيرورة والصيرورة. ولكنها تبقى عوامل يؤدي التغافل عنها إلى خلل في التحليل وارتباك في الاستنتاج.

جوهر مقال محسن السوداني المنشور منذ ايام في مجموعة الصفا، كشف لوجه من وجوه الحقيقة: وهو دور القائد في مسار الأحداث وفي مالاتها انطلاقا من حادثة معينة. أعلم أنه لا يقتطع الحادثة من سياقها ولذلك تحدث عن "سقطات" الزعيم السابقة. ولكن هل كل ذلك كاف للاستنتاج الذي وصل إليه باعتبار أن ذلك هو وجه الحقيقة الأوحد حتى وإن لم يصرح بذلك ؟

أتوقع انه لا يلغي من تقديره تاثير عوامل أخرى. ولكن نصا تقريريا حازما جازما وحاسما وحادا بدون ولو إشارة عابرة لذلك يفتح القارئ على استدراك ضروري على النص.

فيما يخصني لا يمكن أن أتهم بأنني تغافلت عن هذا الوجه من الحقيقة، الذي أطنب فيه محسن السوداني وأجاد وزاد .فقد كتبت فيه الكثير ونصوصي في مجموعة الصفا طافحة، وسمت الأشياء بأسمائها، وبعضها كتب بلغة لا تبعد عن لغته "الساخرة". ولكنني كتبت أيضا وبنفس القدر وبنفس الإلحاح على الوجه الآخر المتعلق بدور النخبة وتاثيره البالغ على الحركة، وحتى على ردود أفعال الشيخ ذاته، ودور الحركة ككل، وكوعي جمعي فرض سطوته على الجميع زعيما ونخبة.

يذكر الناس بسهولة سطوة الزعيم وسطوة البطانة وسطوة النخبة، ويتغافلون عن سطوة القاعدة بوعيها الجمعي الضاغط وبسلبيتها ايضا. إن أي تحليل علمي متعدد المداخل المنهجية لا يمكن أن يتجاوز هذه الوجوه من الحقيقة.

ماذا يمكن أن يفعل قائد فريق إذا كان اللاعبون معه دون المستوى؟ سيرتكب هو أيضا الحماقات و لن تسعفه إمكانياته الفارقة !!!!

كتبت في هذه المجموعة منذ أشهر نصا بعنوان " في أصول التدافع بين الشيخ ونخبته " أكدت فيه على ميكانيزمات العلاقة، المرتكزة على استعداد النخبة شبه الدائم على المد في انفاس تحكم الزعيم، بقدرتها الفائقة على خيانة قيمها والفشل في تضامنها، مقابل هوس التعالم، وتضخم الذات، والانسحاق أمام وهج السلطة، ومخادعة النفس، ومخاتلة الآخرين، والعجز عن ملاحقة الزعيم في قدراته الشخصية والقيادية. فقد ظل الشيخ لسنوات طوال وربما لا زال كاتب الحركة الاول، وبقي لحد الان صانع مقولاتها الرئيسية وشعاراتها في الدعوة والسياسة والتنظيم. وقد أوتي قدرات شخصية في نسج العلاقات العامة والخارجية لم تستطع بقية القيادات الاقتراب من نجاحاتها. و بالقدر الذي أعرف جيدا ما تعطيه السلطة والموقع القيادي من إمكانيات واعتبار وقوة، فان الواقع اثبت أن كل ذلك لا يمكن أن يقفز بشخص متواضع القدرات من مجرد "رئيس قانوني" الى "زعيم كارزمي". وفي تجربة الحركة دليل ذلك في شخصيتي حمادي الجبالي والصادق شورو الذان قادا الحركة لمدة زمنية معتبرة.

ومقابل ذلك العجز، كشفت النخبة عن استعداد لممارسة لعبة التواطئ مع الزعيم، لدفن التطلعات الجديدة، وسد الطريق على التداول القيادي، وتمييع التقييمات والمحاسبات حتى لا تؤدي الى نتائج ملموسة تنعكس على الخارطة القيادية. وهي لعبة مورست زمن السرية، والتمسك بها الآن صار أشد، لانفتاح الوضع على مطالب كانت ضامرة لقلة المنافع الاعتبارية والمادية، ولكنها الآن أصبحت ممكنة وباتت مغرية، و يعين على إغرائها استسلام الفرد لضغوطات "الجوع القديم" اليها ولإلحاح الوسط الاجتماعي عليها.

لا اعتراض لي على نقد الشيخ في وجهه "الاستبدادي"، ولكنني لا أستطيع أن أقبل ذلك بدون الحديث عن الشيخ في وجهه "كضحية"، عبرت عنها تلخيصا بالمثل التونسي "لا نحبك ولا نصبر على فراقك" او بالمثل الاخر "رومني والا نكسر قرنك". ما عبر عنه الشيخ محمد العكروت فيما ما معناه "من يعتقد ان الشيخ اكتسب سطوته فقط من خلال موقعه وصلاحياته فهو واهم" قول صحيح ومعتبر. وكل غفلة عنه وعما أشرت اليه يمكن ان يريح نفوسا عجلى تبحث عمن تلقي عليه أحمالها، لتستلذ النظر اليه ينوء بوزره وأوزارها، و لكنه لن يحل الأشكال لأنه لم يمارس القسط وهو منه بعيد .

لم يخف الشيخ قناعاته وأفكاره، في الوقت الذي أجهد نفسه على أن يلائم بين قناعاته وواجب النزول عند رأي "الجماعة". هذه المسالة بدت للوعي النخبوي للحركة في بداياتها كمسلمة، ولكن مع الوقت تبين أن هذه مثالية بعيدة عن الواقع وطبيعة النفس البشرية. ذلك أن هذا يصدق على القضايا الجزئية والإجرائية الثانوية، ولا يمكن أن يصدق بحال على الخيارات والقناعات. ومع ذلك استمروا في وجوب حمل الشيخ على ذلك، خاصة وأن الشيخ أظهر قدرة على لعب الأدوار كلها برغم ازدواجيتها وتعارضها. فقد مارس الخطاب التنظيمي الذي استمر لوقت قريب صفويا إخوانيا، والخطاب الدعوي الذي استمر قريبا من ذلك، الى الخطاب السياسي الذي يمتح من خطاب "الاصلاح النهضوي" والخطاب الحديث في قضايا الديمقراطية والمواطنة ...، الى الخطاب الفكري الذي استمر جوابا يبحث عن الملاءمات بين العطاء الإنساني والنص الاسلامي.

لم يغب عن تقديري الظروف الموضوعية التي ساهمت في تضييق فرص إفراز قيادات تلامس حجم الشيخ قوة واعتبارا، وعلى رأسها المواجهات المتكررة مع النظام. ولكن كل ذلك يفسر الواقع ولكنه لا يعطي شرعية واعتبارا قياديا وكارزميا لمن لا يمتلك ذلك.

يذكر القدامى قول الشيخ في المؤتمر الاستثنائي للحركة سنة ٨١، وهو يعتذر عن الترشح لرئاستها: لقد مللت وملني أصحابي. وبقطع النظر عن الدوافع الذاتية، فإن القول يكشف واقع العلاقة القديم بين الشيخ وأصحابه/النخبة، كما يكشف عن وجوه المِحنة التي عاشها الشيخ مع نخبته. وإذا كان حمادي الجبالي قد فضل إنهاء الإشكال القيادي سريعا خريف ٨٤، وأنقذ الحركة والشيخ من حالة الإزدواجية القاتلة، فإن الصادق شورو تمسك بالرئاسة القانونية ووضع الشيخ والحركة في موقع لا يحسد عليه. ولم تكن حالة الحركة والشيخ قبل المؤتمر التاسع تختلف في الجوهر عن ذلك وإن بأقل حدة .

لقد عبرت نخبة الحركة عن "وعي شقي" لم يسلم منه حتى رموزها المثقفة و"المفكرة"، وعي يتسم بالسذاجة والتبسيط للإشكال القيادي من حيث المفهوم والمواصفات والتوصيف الوظيفي والحقوق والواجبات والالتزامات، ولمفهوم "التزام قرار الجماعة"، ولمفهوم الشورى. وفي الوقت الذي كانوا يريدون الشيخ زعيما يقاومون به الزعماء خارجيا، كانوا يريدونه "موظفا" لديهم داخليا !!

إن طرح ما تم في المؤتمر العاشر خارج هذا السياق العام، وخارج الاحتكاكات التي تمت خلال أكثر من سنة استعدادا للمؤتمر، وأزمة الثقة التي اتسعت رقعتها بين الأطراف جميعها، لا يساعد على الوصول الى تفسير مناسب وبالتالي حل مناسب .

لم أتردد في توصيف ما حصل من إعادة التصويت من أنه تم تحت الابتزاز والبلطجة. ولكن طرق الحسم في الخيارات التي تُمارس داخل الحركة من حيث الشكل تكشف عن خلل منهجي يتسم بالسطحية والسذاجة. وليست المرة الأولى التي تراجع فيها نتائج التصويت أو يقع التشكيك فيها أو تقع إعادتها جملة. أعتبر أن ما لجأ اليه الشيخ ينم عن عجز لديه برغم قدراته التي لا يمكن التشكيك فيها في إدارة التدافع داخل الحركة، ولكنني لا أستطيع أن أتعامى عن حقيقة أن الشيخ ضاق بدور "الموظف"، وضاق بإملاءات النخبة، التي ارتفع سقف مطالبها من دون أن ترفع من سقف التزاماتها. ودون ان ننسى احساسه وشكه بوجود كيد ما يدبر من طرف البعض، بقطع النظر عن صحة ذلك. وزاد من تعميقه نافخو الكير وحمالو الحطب.

الحقيقة أنني اندهشت كثيرا الى أن المدافع الوحيد عن الشيخ وأفكاره حول ادارة الحركة يكاد يكون هو الشيخ وحده. وأن المناصرين لأفكاره وله لم يستطيعوا القيام بذلك الدور، مما جعله في اكثر من مناسبة يتقدم بنفسه. وهي صورة مستفزة، ويزيد من استفزازها قيام الشيخ باستعمال خطابات وحجج تقليدية تتعارض مع أفكاره المعلنة في الحرية والديمقراطية والادارة.

لا شك إذن أن هذا العجز الجلي من الشيخ في تقديم وجهة نظره، وتنكب النخبة حتى تلك التي تناصره عن القيام بواجب الدفاع عنها، هو ما يفسر انفلات الأوضاع ولجوء الشيخ الى ما لجأ اليه .

لقد كتبت منذ أشهر أن الحركة احتاجت الى زعيم كي تقاوم زعامة بورقيبة وغيره من الزعماء، فعليها ان تتحمل ثمن ذلك.

لا بل ان نخبتنا نشأت كنخبة زعيم تتمثله لتذوب فيه، اوتتمثله لتنقلب عليه، تماما كما هو الحال لنخبنا الوطنية او القومية او الاسلامية.

يستعمل الزعيم قيم الإدارة المعاصرة، من المأسسة والديمقراطية والتشاركية والشفافية واللامركزية كسلاح للتدافع الخارجي مع فرقاء الوطن، وتستعمل النخبة تلك القيم حين تفشل داخليا في الاستحواذ على السلطة.

ولا تزال تربتنا دون مستوى استنبات تلك القيم و لازال ليل الاستبداد طويلا كما كتبت منذ اكثر من سنة .

هل هناك أمل في الاصلاح ؟

بقطع النظر عن التزام الشيخ بالإصلاح كما صرح، فان الطريق لذلك يتطلب اجتهادا مضاعفا من الاطراف جميعاً. ولا يمكن أن يكون من طرف واحد مهما كانت صلاحياته ومهما كانت استعداداته. ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح بدون نقد ذاتي، ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح باعتقاد كل طرف أن الحل في وجوده هو في إدارة الحركة. كما لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بدون نظام إداري متكامل وقائم على أسس الإدارة المعاصرة في الاستصفاء القيادي، والتداول القيادي، والتشبيب القيادي، وفي طرق وأساليب التقرير والتنفيذ والمتابعة والتقييم والمحاسبة .

عندما يتخلخل البناء الأخلاقي، فلن يعود بالمواعظ الميتة، وإنما ببسط العدل والقسط. وبذلك فقط تستعاد الثقة، وتبدا رحلة العودة للأصول. وهي عودة شبيهة بالسباحة ضد التيار. ولكنها سباحة من أجل الوصول الى النبع ... فهل ان ذلك ممكن ؟



تاريخ أول نشر : 11\7\2016