search

من جديد مع العميد عياض بن عاشور ... هل تخطئ الشعوب أم تخدع؟

استمعت إلى محاضرة قيمة للعميد عياض بن عاشور ألقاها في المركز العربي لدراسة السياسات بباريس بتاريخ 30 ماي 2024 عنوانها :أزمة الدولة في تونس.

والمحاضرة مقاربة قانونية دستورية لأزمة الدولة في تونس خاصة بعد 25 جويلية 2021، قدم فيها عرضا متماسكا حول الثورة التونسية في مساراتها ودون أن يغفل عن الحديث عن مصائرها.

كما عكس فيها مواقف وتقييمات مختلفة للحياة السياسية، وللفاعلين السياسيين، ولما طبع الحياة السياسية بعد الثورة من صراعات و"عداوات" محملا فيها المسؤولية - وإن بحذر - للحزب الأغلبي وهو حركة النهضة.

ما لفت نظري هو إغفاله التام لدور الفاعلين الخارجيين وتأثيره الذي لا يستهان به على الأحداث، وهي نفس الغفلة عن الحديث عن تأثير المعارضة السلبي على مجريات الأحداث، لا بل إنه تم عرضها بشكل إيجابي من خلال الحديث عن مبادرة الاتحاد للحوار الوطني صيف 2013.

لا أريد أن أتتبع المحاضرة القيمة بالنقاش، فكثير من الآراء فيها ليست جديدة من طرف العميد، وإنما الذي أريد مناقشته هو ما ورد في محاضرته ابتداء من الدقيقة 41 عند حديثه عن دور الشعب في الديمقراطية وهو ما يلي : " لا يجب أن نتردد في مثل هذه الحالات وحتى عندما تكون هناك أغلبية (مؤيدة للمسار العام) من طرح السؤال: هل أن الشعوب تخطئ أحيانا؟ والحقيقة أن الشعوب تخطئ وقد ترتكب أخطاء كبيرة، والشعوب التي لا تحظى بنخبة حكيمة (تنير لها الطريق) وغير خاضعة للأهواء شعوب ضائعة. والديمقراطية تخسر نفسها (أو تضيع) عندما يكون الشعب هو الحاكم الفعلي للبلاد بدون (توفره على) قاعدة ثقافية وأخلاقية وافتقاره بالخصوص لنخبة من الحكماء ومن المفكرين غير الخاضعين للأهواء تستطيع أن تقوده وأن ترشده في الطريق."

هنا أعود لنفس المناقشة التي أثرتها من قبل، حول موقف العميد من الديمقراطية أو فهمه لها. هذا الذي أسميته (ربما تعسفا) "ديمقراطية الأرستقراطية". ذلك أن الديمقراطية "الحقيقية" في ما يفهم من كلامه هي الديمقراطية التي تقودها نخبة حكيمة وغير خاضعة لـ"أهواء العامة". من يحدد مدى "حكمة" هذه النخبة؟ ومن يحدد صوابية توجيهاتها؟ إنها النخبة ذاتها ! هذا ما يفهم من كلام العميد.

يتحول الشعب الذي يفترض في التعريف التقليدي للديمقراطية أن يكون قيما وحاكما على النخبة إلى محكوم بها ومحددة لخياراته. لقد كان العميد دقيقا بل وصارما عندما ارتفع صوته (في يقين) بالقول: "إن الديمقراطية تخسر نفسها عندما يكون الشعب هو الحاكم الفعلي للبلاد" لماذا ؟ لأن الشعوب معرضة للخطأ ! والشعوب التي تفتقد نخبة "حكيمة" شعوب ضائعة وغير مؤهلة لممارسة الديمقراطية. وهو قول غير بعيد عن منطق الشاعر العربي في البيت المشهور:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ....... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

من هنا لم يستنكف العميد عن اعتبار شعار الثورة التونسية المميز : "الشعب يريد" الذي أشاد به في بداية محاضرته عن الغمز إلى حدوده وربما لا واقعيته وحتى خطره.

حديث العميد حول الديمقراطية "الحقيقية" ساقه إليه نتائج انتخابات 2019 التي جاءت للسلطة برئيس انقلب على الكل شعبا ونخبا ودولة وقانونا ودستورا. ومع أنه أشاد من طرف خفي بالانتخابات التي لو ترك الأمر لها لتوارى ذلك الحزب الأغلبي شيئا فشيئا عن ساحة الحكم، فإنه لا يستسيغ من حيث المبدأ أن يكون الشعب "حاكما فعليا" لأنه "يخطئ".

وجهت الصحفية كلثوم السعفي التي كانت حاضرة سؤالا للعميد يتضمن نقدا لفكرة "الشعب يخطئ"، حين أكدت على ما قاله عالعميد نفسه: أن الشعب برغم أنه اختار قيس سعيد لكنه لم يجاريه في خطواته، حيث استقبل خارطة طريقه بالرفض، من خلال نسبة المشاركة المتدنية جدا في الاستشارة الالكترونية والاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية. وهذا يدل على أن الشعب واع وأنه لم يجار قيس سعيد في خطواته. وهو نقد وجيه في نظري وينفي عن الشعب اتهامه بالقصور.

لقد كتبت مرة "أننا خدعنا ... والشعوب تخدع كما يخدع الانسان" . نعم الشعوب كما الانسان لها عقل ولها قدرة على التمييز، ولكنها أيضا تتعرض لما يتعرض له الانسان من ضروب التحيل والخداع الذي يجعلها فريسة للمخادعين وللمتلاعبين بالعقول. من هم هؤلاء ؟ إنهم النخبة التي يوكل إلى حكمائها العميد تحديد مصائر الشعوب والتحكم فيها.

وعندما تكون النخبة نخبا متنازعة، من يحدد الأفضل فيها؟ والأدرى بمصلحة الشعب فيها؟ من سنحكمه هنا؟

بطبيعة الحال تتحدد النخبة الحكيمة النيرة بحسب الإيديولوجية التي تتبناها وهي بالنسبة للعميد كما هو معلوم النخبة المؤمنة بالقيم الكونية المحددة في المواثيق الدولية ذات الجذر الليبرالي.

عندما نتتبع الحوار إلى أقصاه، سيظهر تهافت الحجج التي تقدم ضد المطالبين بمرجعية الشريعة الاسلامية من الناحية المبدئية، و ضرورة تضمينها في الدستور، باعتبار أنه مهما كان الدستور علويا فلا بد من وجود "سلطة" أعلى تمثل منبعا للقيم والمبادئ التي يستند إليها الشعب ومؤسساته في الدولة والمجتمع. وفي حين لا يعترض المطالبين بمرجعية الشريعة الاسلامية في الدستور على عرضها للاختيار الشعبي يرفض المعارضون ذلك لأن "الشعب يخطئ" ولا يعرف مصلحته. ولكن هذا لا يعني ان أصحاب مرجعية القيم الكونية يستندون إلى أرض صلبة. بالطبع لا يمكن لهم إدعاء ذلك طالما أن الحكم بين طرفي النخبة هو الشعب الذي لا يبصم على اختيارات النخبة بدون تمثل لها يتوافق مع أرضيته الثقافية والنفسية. ومن هنا "الخشية" التي تبديها تلك النخب من الاحتكام إلى الشعب.

الحقيقة أن الأمر يخفي أمام الحجج الظاهرة عقلية "وصاية" عن الشعوب، مع أنني لا أنفي عن مخالفيهم تهمة "مخادعة الشعوب" حين يعرضون عليه "مرجعية الشريعة" في شكل شعارات جوفاء بدون ضمانات وجود اجتهاد معاصر قادر على تنزيل نصوص الشريعة على ما يعج به واقعنا من تحديات على جميع المستويات، مستفيدين فقط من إيمان الشعوب بمرجعيتها الاسلامية وبانتمائها التقليدي لها.

لم يعد خافيا أن النخب "العلمانية" بالمعنى الواسع للكلمة، قد أزهدتها التجارب الانتخابية في التعويل على صناديق الاقتراع طريقا للحكم، لأن الشعوب إذا تركت لاختيارها الحر فإنها ستخطئ لا محالة. وعليه ولكي تكون لدينا ديمقراطية "حقيقية"، علينا أن "نتحكم" في نتائجها بحيث توصل إلى السلطة "الحكماء" حتى ولو كانوا من الذين لا يحظون برضا الشعب.

تتجنى النخبة عن الشعب وتزدريه إذا خالف هواها وتنعته بأقذع النعوت، مع أن الشعوب عاقلة وتتصرف حسب ما تقدمه لها النخبة، وقد توصلها النخبة إلى حالة "الفصام" وسائر الأمراض التي قد يصاب بها الانسان، إن تردت - النخبة - في صراعاتها وملاعباتها بالعقول والقلوب من خلال تملكها لأدوات الدعاية والتضليل وشراء الذمم، أو من خلال افتعال الصراعات البينية المدمرة. وهو ما يصدق على ما وصلت إليه الحياة السياسية في تونس خاصة منذ صيف 2019 وما بعده.

لكن الشعوب إذا تخلصت من عملية الخداع فهي قادرة على الاختيار الحر السليم.

والمتفحص في اختيارات الشعب التونسي في الانتخابات الأربع التي خاضها، يدرك ان الشعب كان "عاقلا وذكيا"، واختار بناء على ما وفرته له النخبة من إمكانية الاختيار، وقدم في كل انتخابات دروسا لم تلتقطها النخبة ولم تأخذها بعين الاعتبار. وكيف يلام الشعب على اختيار قيس سعيد في انتخابات 2019 والاغلبية الساحقة من النخب قد وقفت وراءه بما فيهم السيد العميد الذي صرح بعد أن أسفر قيس عن وجهه الحقيقي أن "هذا ليس قيسا الذي عرفته وفتحت له بيتي حتى في غيابي"؟

الشعوب لا تخطئ ... ولكنها قد تخدع ... والعيب ليس عيبها ولا عيب الديمقراطية وإنما عيب النخب التي تجعل مصالحها فوق كل اعتبار، وتريد للشعوب أن تؤمن على اختيارتها وأن تقبل أن يتعامل معها معاملة "السفيه" المحجور عليه.

وتلك هي أزمتنا الحقيقية ... أزمة نخب لم تستطع تجسير الفجوة مع شعوبها، وبعضها يزدري حتى هذا العمل (تجسير الفجوة) ولا يفكر إلا في الطرق التي تجعله ممسكا بجهاز السلطة المفيد "للجاه والمال". وهي أزمة نخب تشقها اختلافات تمس المرجعية الثقافية العامة وتفشل في القيام بتسويات بينها من أجل توفير شروط تعايش سلمي.

وهي أزمة القيم الليبرالية المدعاة كونية التي لا يكون لها معنى إلا متى كانت أدوات السلطة مضمونة بين يدي دهاقنتها وأحكمت قبضتها على الشعوب وأخمدت فيها كل نفس حر معارض لها.

تاريخ أول نشر 2024/6/12