كتبت كثيرا في هذا الموضوع .... أعود إليه من حين لآخر ... عندما ألاحظ التطرق إليه بخلفية تبريرية، تعيد بشكل مقنع المقولة الشهيرة : ليس بالامكان أحسن مما كان.
رأيي دائما ... أن الاطار النفسي هو المتحكم الرئيسي في حركة التاريخ ... الشروط الموضوعية مادية كانت أو جيوستراتيجية أو سوسيوتاريخية، لا تمثل حاجزا إذا لم تكن مواتية، ولا دافعا عندما تكون مواتية. العامل النفسي المتمثل أساسا في حجم التعبئة بالفكرة، وحجم الايمان بالقضية، وحجم الاستشعار بالخطر، هو من يحدد كيفية التعاطي مع الاحداث.
أحيانا تكون كل العوامل الموضوعية - يعني موازين القوى - في غير صالح الدعوة للتغيير، بله قطع خطوات عملية فيه، لكن العامل النفسي المشبع بالتحدي، وبقوة الايمان بالحق الذي عليه، وبقوة الايمان بالخطر المتمثل في عدو قادم أو جاثم، هو ما يجعلك تتحرك، ولو كان تحركك مجرد نحت بأظافر عارية في صخر صوان أملس.
التاريخ من يقدم لنا الدروس تلو الدروس، ويقدم لنا الشهادات تلو الشهادات، كيف تنقلب موازين القوى بين قوتين لا مجال إطلاقا للموازنة المادية والموضوعية بينهما.
لذلك كتبت مرة أن: التاريخ صناعة الضعفاء وليس الاقوياء .... أقصد الضعفاء ماديا، الضعفاء موضوعيا بحسب معادلة موازين القوى. ينطلقون بحلم يتحول الى "عقيدة" تعبئ النفوس وتتملك العقول والقلوب.
تدور المعركة في عالم "الأنفس" ... في الوقت الذي تتعبأ فيه أنفس، يدب الخلل والوهن والفراغ في الأنفس المقابلة ... الايمان بالفكرة / المشروع/القضية يحرك الجوارح، فتنطلق في الميدان مؤمنة بما تفعل مهما بدا هامشيا في تأثيره ... لكن مجرد الاصرار عليه، والتحدي به، والصبر على مواجهته من الخصم / العدو، وتحويل تلك المواجهات الى ملاحم ... كل ذلك يمثل كرة الثلج التي تكبر شيئا فشيئا، حتى تقلب "موازين القوى" في لحظة ما ... لا يعني ذلك أن العمل العفوي غير المخطط والمنظم يمكن أن يقلب موازين القوى. ولكن ما يعنيه ويعنيني هنا، هو أن العمل المنظم والمخطط لا يفيد شيئا إذا لم تكن وراءه نفوس كبار، مؤمنة بالحق وبالشرعية أكثر من إيمانها بسطوة الشروط الموضوعية.
يحدث كثيرا في التاريخ أن تموت أحلام، وتنكسر إرادات، حين يتحول الايمان بالقضية الى عملية رياضية، يديرها تكنوقراط، يتحلون بحكمة زائفة، تعتبر الاصرار على الحق تهورا وضياعا للوقت .... أولائك هم أدوات الخصم الوظيفيون رغم أنفهم، الذين يظهرون في صف قوى التغيير، وقد يكونون قيادته، يقدمون للخصم /العدو ما لا يقدر على تقديمه لنفسه ....
تاريخ اول نشر 17/05/22