search

نحن نزرع ... والمطر ينزل ... والحصاد قريب

من يذكر هاته الكلمات التي ألقاها من منصة التجمع العام لمؤتمر الحسم ربيع 85 المناضل الشهم عبد الكريم الهاروني؟

من يذكر حين أطل على الجموع الطلابية التي وفدت من كل الأجزاء الجامعية ذلك الخطيب المفوه: سلاسة حديث، وقوة حجة، وحضور بديهة، وطرافة نكتة، ولغة سهلة المتناول وقريبة من وعي الناس وحديثهم؟

من يذكر ذلك الفارس الذي لا يكل ولا يمل، ولا يضع عصا الترحال، يتنقل من جزء جامعي إلى جزء ومن دار إلى دار ... لا يتوقف عن التفكير والتخطيط، ولا عن الخطابة والحديث، ولا عن الكتابة والاستماع ... كلها ... كلها معا! كنت أعجب من حاله تلك ... جمعتنا المساكنة في بيت واحد أشهرا طويلة .... كنت أعجب من هذه الخاصية في شخصيته .... كان يتحدث معنا ويتابع برنامجا تلفزيا ويكتب نصا ... كنت أستغرب ... مثلي لا يستطيع التركيز إلا في شيئ واحد وخاصة عندما أريد أن أكتب شيئا ...

عبد الكريم طاقة لا تنضب من العمل ومن الجد ومن الحرص، كل ذلك بدماثة خلق وخفض جناح واستبشارا وتبشيرا ... لا يستهين بالأحداث ولكنك لا تراه إلا مستبشرا ... لا يعرف لليأس سبيلا ولا للقعود طريقا ... هكذا كان وهو تلميذ في الثانوي، ثم وهو طالب في المدرسة الوطنية للمهندسين ... هكذا كان وهو قيادي في جهته بالمرسى ... وهو قيادي في المكتب التنفيذي للحركة ... وهو ممثل الطلبة في المدرسة القومية للمهندسين، ويقود مع مع زملائه ممثلي الطلبة الاسلاميين في الأجزاء الجامعية أسبوع الجامعة، ذلك المشروع الريادي الذي أعطى للجامعة وجهها الثقافي ولم يحصرها فقط في الوجه السياسي النقابي ... هكذا هو لما كان الأمين العام للاتحاد العام التونسيي للطلبة ... هكذا كان لما سلم المشعل لمن بعده وانخرط قياديا فاعلا من جديد في مؤسسات حركة النهضة بعد ذلك ... هكذا كان وهو يقضي سنوات السجن الطوال ... وهو يواجه القمع والظلم ... كان يستعلي على الجميع بإيمانه بربه وبعدالة قضيته وبحبه لوطنه ... هكذا كان لما خرج من السجن وأقض مضجع الظلمة بحركته الدائبة وبصبره الواسع وبثقته في النصر .... هكذا كان وهو يستلم وزارة ثقيلة الحجم كوزارة النقل ثم هو يستلم رئاسة مجلس الشورى ...

لا أتحدث عن نبي مرسل ولا ملك منزل ... وإنما أتحدث عن إنسان جاهد وكابد واجتهد ... وأصاب وأخطأ ... وكان في كل ذلك نقي السريرة، مؤمنا بربه، واثقا في نصره ومدده، عظيم الحب لإخوانه، حثيث السعي لخير وطنه ...

ربما كانت طاقة التبشير تأخذ بكل مجامعه فلا يلتفت للمحاذير أحيانا، وربما كان الدفاع عن الحق يستولي عليه فلا يعبأ بتكاليف الصدع به، وربما كان لوضوح الغاية الاستراتيجية عنده ما يجعله لا يصطنع التكتيكات التي يراها غيره لازمة للتفويت على الخصوم ... يمكن للبعض أن يستدرك عليه ذلك وغير ذلك ... لكنهم لن يجعلوا كل ذلك مندوحة لإنزاله منزلة وصلها باقتدار، بل وأوصلها إليه إخوانه وارتضوها له ورضوها لأنفسهم ...

وكشأن غيره من إخوانه، خاصة ممن استطاعوا بشجاعتهم وبقدراتهم البارزة أن "يتعبوا" خصومهم، فيشنون عليهم ضروبا من التشويه والاستهداف، نال عبد الكريم ما ناله من التشويه والكذب والتلفيق المشوب بحقد دفين سرى على ألسنتهم وفي المنابر والمواقع وما تخفي صدورهم أكبر ...

لقد تعرض عبد الكريم لمحاولة "اغتيال معنوي" جبان، خاصة في إطار التمهيد للانقلاب قبيل 25 جويلية، كذبوا فيها عليه الكذب الصراح، ولبسوا على الناس، وخلطوا الحق بالباطل. كان ذلك في الدفاع عن صندوق العدالة الانتقالية والإدعاء الكاذب بأنه طالب الدولة بالتعويضات ... كل شيئ في الموضوع كان واضحا ، والقانون واضح، فالصندوق لن تتم تعبئته من موارد الدولة وأنما من منظمات دولية ودول أعلنت استعدادها لتعبئته ... لكنهم قصدا أرادوا التلبيس والتشويه ... وساعدهم في ذلك إعلام عار طعن الثورة من كل جانب وقدم البلد لقمة سائغة للانقلاب.

دعا عبد الكريم الدولة إلى إنفاذ القانون لا غير، خاصة وأنه لا يوظف عليها التزامات مادية ... لماذا تماطل الدولة؟ ولماذا تحرم آلافا من حقوقهم التي أعطتها لهم الثورة من خلال قانون العدالة الإنتقالية، وهي "حقوق" لن تعوض بحال ما ضاع من عمرهم وما انتهك من إنسانيتهم؟

ولأن الذين كانوا أداة الدولة في شن الحملات الاستئصالية على خصومهم، لا زالوا يجوسون خلال إداراتها، ويتحكمون في إنفاذ القانون فيها. فقد واصلوا مهمتهم القذرة وتحاملوا شرا وحقدا على كل صوت حر يدافع عن ذلك.

ولم يكف الانقلاب حنقه وحقده على عبد الكريم، فاقتاده إلى السجن بعد ذلك بملف فارغ أفرغ من فؤاد أم موسى. لأنهم كانوا يخشون وجوده خارج السجن، ولأنهم يعرفون صلابته و حيوية موقعه في الحزب.

لكن عبد الكريم الهاروني هو هو ... سيظل يسير "هازئا بالسحب وألأمطار والأنواء" ومؤمنا أشد الإيمان بأن "دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة".

تاريخ أول نشر 10\5\2024