قال المخضرم الدكتور محمد كشكار أن اليساريين التونسيين أخطأوا في كل شيئ تقريبا إلا في نواياهم الطيبة. وأنا على الضفة المقابلة أقول أن الإسلاميين أخطأوا كثيرا ولا زالوا يخطئون مع التأكيد على نواياهم الطيبة . ولك أن تسحب هذا على بقية الفرقاء ...
وهذه حالة من الانفصام النفسي الفردي والجماعي الذي نعيشه : حسن طوية ورغبة في الخير وفي الأحسن، وممارسة قد تصل حد التشكيك في سلامة القصد .
من هذه الزاوية يمكن أن نقول أنهم جميعا "متدينون" في النية و القصد، و"علمانيون بالمعنى اليعقوبي" في الممارسة والفعل مع التنسيب في الحجم بين هذا وذاك .
الحقيقة هذه معظلة إنسانية .. ولم يخلو تاريخنا حتى في بواكيره الراشدة من هذا الانفصام. و"الفتنة الكبرى" خير دليل على ذلك ، حيث اجتمعت النوايا الطيبة مع سفك الدم الحرام. ويذكر التاريخ صورا غاية في "الكوميديا السوداء" حين يقوم "القتلة" بعد انتهاء المعركة بدفن من قتلوا على أيديهم و تأبينهم والصلاة عليهم والدعاء لهم بالرحمة !!
التقى اليساريون والاسلاميون في السجون والمنافي وفي ساحات النضال زمن الديكتاتورية، وانتزعوا من بين شباك الايديولوجيا نواياهم الطيبة، بل عاشوا لحظات توادد وتعاشر، واستمر ذلك حتى اللحظات الأخيرة لسقوط الطاغية، في مشهد مهيب ومليئ بالدلالات ظهيرة الرابع عشر من جانفي.
ومع صبيحة اليوم الخامس عشر اندحرت النوايا الطيبة الى الخلف، وتقدمت حسابات الايديولوجيا، وسيطرت على العقول والقلوب، وحرمت تونس من اجتماع أهم قوتين في البلد لا أمل لنهوضه بدونهما وليس بالضرورة متحدين أو مندمجين .
إن أقسى صور الثورة مأساوية، تلك التي جعلت الفريقان يتسابقان في سرعة مذهلة للإحتماء بالمنظومة القديمة، من أجل إنقاذ نفسيهما لا من أجل استكمال الثورة ، لأنه لا يمكن لعاقل أن يتوقع أن تستكمل ثورة بمدد ممن ثارت عليه .
هل يقبل الاسلاميون واليساريون الاعتراف بأنهم أجهضوا ثورتهم بعدم قدرتهم على صناعة كتلة تاريخية ؟ أم أنهم سيجدون في التلاوم بينهم وإلقاء التبعة على الآخر تبريرا لسقوطهم وعجزهم ؟!
تاريخ أول نشر 2018/9/12