كتاب السيد صلاح الدين الجورشي المعنون: "أقواس من حياتي"، كتاب يستحق الاهتمام، نظرا للقيمة الاعتبارية لصاحبه، فهو من مؤسسي "الجماعة الاسلامية بتونس"، و"الاسلاميين التقدميين"، ورمز من رموز الحركة الحقوقية بعضويته الفاعلة في "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، وكاتب وصحفي ترك بصمته في جل الصحف والمجلات المعارضة والمستقلة، بدءا من مجلة المعرفة والمجتمع والحبيب، كلها لسان حال الجماعة الاسلامية بتونس، ثم في "المستقبل" وا"لرأي" و"المغرب" و"حقائق"، فضلا عن مراسلة مجلات وصحف عربية عدة، إلى جانب المساهمات العديدة في الندوات الفكرية والمشاريع البحثية وترؤس وعضوية مؤسسات ومبادرات سياسية وفكرية وحقوقية واجتماعية عديدة. وأيضا لأهمية الأحداث التي تعرض إليها في شهادته، سواء على الصعيد الوطني أو العربي الاسلامي أو العالمي.
لم يكن اسم الجورشي غريبا عني كشاب نشأ في أجواء الجماعة الاسلامية أواسط السبعينات، كنت أقرأ ما يكتبه في المعرفة، وإن كان بعض ما يكتبه لا يذيل باسمه. ثم تنامت إلي أخبار الخلافات التي انطلقت مع المجموعة التي يعد أحد أركانها، وكان مسرحها تونس العاصمة أساسا. وأذكر أنني أول مرة أقرأ ما يشير إلى تكون المجموعة، كان في التحقيق الشهير حول الحركة الاسلامية لسهير بلحسن وصوفي بسيس في مجلة جون أفريك في صيف 1979. وباستثناء ما يثيره الاختلاف من اشمئزاز طبيعي لدى التنظيمات وخاصة لدى الحركات الاسلامية، وما يبعثه في النفس من شعور بأنه مهما كانت حجية أسباب الاختلاف فإن "الخارج" عن الجماعة مدان ابتداء، وأذكر جيدا كتاب فتحي يكن "المتساقطون على الطريق" وما يحيل إليه من تلك المعاني، باستثناء ذلك لا أذكر أن التعاطي مع المجموعة ورموزها قد تجاوز ذلك. فقد واصلت الاهتمام بما يكتبه صلاح، بل لا زلت أذكر مقالاته في الرأي، وتحقيقه الشهير حول إيران، فضلا عن كتاباته بعد ذلك، وبعدما اختفى التركيز على موضوع الاختلاف، واستقرت تجربة المجموعة بشكل منفصل. وكنت أتعامل مع مبادراتها أفرادا ومجموعة، بكل ما يقتضيه التعامل مع "المختلف"، من واجب الاحترام والتقدير مع حق النقد والاستدراك. وأحسب أن ذلك هو ما لمسته من تعامل الحركة مع المجموعة ومع الجورشي خاصة، بما أن موقعه كصحفي وكعضو في الرابطة و"متدخل" في قضايا السياسة تجعل التقاطع معه أكثر.
وعلى عكس متابعتي "اللصيقة" لما يكتب، فإن لقائي المباشر به لا يكاد يذكر، لا يتجاوز الثلاث مرات على ما أذكر. أهمها سهرة سنة 1989 أو 1990 بدعوة من صديق مشترك وهو المرحوم الشهيد عبدالرؤوف العريبي في بيت صديق مشترك لهما. كانت سهرة امتدت لساعات طوفنا فيها في قضايا عدة، وكانت فرصة لي كي أستكشف شخصية الجورشي، فلا ريب أن الجلسات التلقائية تكشف جوانب من الشخصية لا توفرها الكتابات ولا المناسبات الرسمية أو شبه الرسمية.
وهذه المراجعة للكتاب، رأيت القيام بها تقديرا لأهميته وأهمية صاحبه، ومساهمة في إثراء النقاش في قضايا وإن كانت من الماضي، إلا أن أثرها لازال ساريا في حاضرنا وربما يتعداه إلى مستقبلنا.
(1)
"شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر" ذلك هو العنوان الفرعي للكتاب. وأحسب أن اضطراب العصر قد ألقى بظلاله على الشهادة، خاصة وأن الطريقة التي كتب بها، ترهق كل من يريد تتبع نسق الأفكار وتطورها، فهو يخلط في معظم حديثه بين الماضي بالحاضر، ويتحدث في بعضها عن الماضي بقناعات الحاضر، وتفتقد الكثير من الوقائع موقعها في التسلسل الزمني وكذلك تأريخها، كما يستشهد في الكتاب بأقوال مهمة بدون تبيان زمن صدورها، فلا تجعلك قادرا على التعامل مع القولة بالشكل المناسب إلا في تجردها، وهذا لا يساعد على تقويمها. وهي – في ما أرى - استراتيجية مقصودة في الكتابة، من أجل أن تقدم "الذاكرة" بطريقة تناسب الرسائل التي يريد الكاتب إرسالها بوعي أو بدون وعي.
لم يضن علينا الكاتب بما هو مهم من التعرف على بعض من محددات تنشئته، فكشف لنا عن جوانب مهمة، كان لها أثرا في مسيرته ومنعرجاتها. إصابته بشلل الأطفال وما ترك من أثر، وفقده المبكر لوالدته إثر طلاقها من أبيه، وانقطاع الصلة بها تماما لمدة 15 سنة، ونشأته في "ربط باب سويقة"، زرعت فيه روحا مسكونة برغبة جامحة في إثبات الذات والاستقلال الذاتي واللحاق بعالم الكبار. ولذا فقد وجد في تلك الظاهرة الدينية التي بدأت تتلمس طريقها في المجتمع التونسي ضالته، بما تحمله من غرابة وغربة وتميز وتحدي. ولأنها لا زالت في طريقها لبناء ذاتها كـ"مؤسسة اجتماعية"، فقد حدثه عقله الباطن بأن فيها مكانا كي يثبت من خلالها ذاته الفاعلة، التي تبحث عن موقع يحقق رغبته الدفينة في الحضور والتميز، بما يححق له موقعا مؤثرا وموجها لغيره. لذلك فقد انخرط بقوة في تلك الظاهرة وفي أجوائها بكل ما كانت عليه من التحدي والصرامة، وتبنى وجهها السلفي الإخواني بصرامة تحدث عن بعض مظاهرها في الكتاب، وإن حاول التخفيف من حدة اندفاعه وتبنيه لذلك. لم يكن الكاتب مجرد تابع، لقد كان ناشطا فاعلا، ثم وبسرعة لافتة مسؤولا إلى حد العضوية في المجلس التنفيذي للجماعة الاسلامية، ذلك الكيان التنظيمي الذي يطمح إلى أن يقود الظاهرة ويوجه دفتها.
حاول الكاتب أن يصرف كل أوجه الصرامة في التدين السلفي الإخواني الذي اتسم به النصف الأول من العشرية الأولى للظاهرة إلى غيره، لكنه لم يفلح في تقديري، ففي حين كان يقوم هو بتقديم دروس للأخوات في غرفتين منفصلتين واحدة له وأخرى لهن، فهو يقر أن الشيخ راشد كان يقدم دروسا للأخوات في المسجد في حلقة وجها لوجه، لا بل إن حلقة يوم السبت التي أنشأها الشيخ راشد لتلامذته في جامع سيدي يوسف للتوسع في برنامج الفلسفة، كان يحضرها التلميذات وقد كن كلهن سافرات في تلك السنوات الأولى (70-71)، بل إن غالب التلاميذ لا يصلون. ونفس الأمر في ما يتعلق بالتصوير أو بالموسيقى. يبدو تركيز الكاتب على بعض الأحداث الجزئية من قبيل التكلف. وقد نشرت مجلة المعرفة وهي لسان حال الجماعة في أعدادها الأولى موقف القرضاوي من الموسيقى من كتابه الحلال والحرام وهو يعتبر موقفا متجاوزا للموقف السلفي.
وإذا كان صحيحا ان الجماعة قد تأثرت بالرؤية السلفية الإخوانية إلا أنها ومنذ البداية لم تكن بصرامة مطلقة، وإنما عكست في مجملها طبيعة المجتمع التونسي المتنوعة وأيضا أمزجة الأفراد وخصائصهم النفسية. ومما أذكره أننا في قريتنا الجنوبية مثلا، والتي من المفترض أن تكون أكثر تمسكا وميلا للرؤية السلفية الاخوانية في المظاهر السلوكية على الأقل، كنا على العكس من ذلك لم ننخرط في تلك الإجواء سواء، من حيث العلاقة بالمرأة من مصافحة واختلاط، أو في العلاقة بالمجتمع، أو في الموقف من الموسيقى. كما لم ننخرط بقوة في ذلك الصراع الذي احتدم حول هيئة الصلاة من سدل وقبض وما إلى ذلك.
هذا على مستوى السلوك أما على مستوى الفكرة فإن الإيحاء بالانغلاق الفكري لرموز الحركة وأساسا للشيخ راشد يبدو متهافتا. فأن يكون الكتاب الأول الذي أصدره الشيخ هو: ما هو الغرب؟ وأن يكون ذلك بالاشتراك مع مثقف (مصطفى النيفر) لا تربطه بالجماعة إلا علاقة قرابة (أخ احميدة النيفر) و صداقة مع بعض رموزها، كلها مؤشرات ذات دلالة. ومن يقرأ كتاب "ما هو الغرب؟" أو "طريقنا إلى الحضارة"، يجدهما أبعد ما يكونان عن المضمون السلفي أو المنهج السلفي التقليدي، بل إنهما كموضوعات ومصطلحات لا تدخل في الرؤية السلفية ولا أولوياتها، وقس على ذلك أغلب مقالات الشيخ راشد في مجلة المعرفة منذ أعدادها الأولى. لا بل إن الكاتب في المقابل لم يستطع إخفاء تأثره بسيد قطب في تلك الفترة قبل أن ينقلب عليه في ما بعد كما يقول.
وأنا أقول هذا ليس نفيا لتأثر الحركة ورموزها بالمنهج السلفي فهذا من تحصيل حاصل، وإنما المقصود هو أن ذلك كان بشكل نسبي ولم يكن طاغيا، كما أن محاولة إلصاقه بالشيخ راشد محاولة غير موضوعية، فقد كان الجورشي نفسه من ضمن الرموز التي عرفت بحماسها لذلك في تلك الفترة من الزمن. فإلى حدود سنة 1976 كان كل من صلاح الدين الجورشي واحميدة النيفر شديدا الحماس للارتباط بالاخوان، وها هو الكاتب يقر بأنه بايع احميدة النيفر وليس راشد الغنوشي. كما أن احميدة سافر سنة 1976 الى مصر مندوبا عن الجماعة، وهناك كلفته القيادة الاخوانية بإقناع بعض شباب الجماعات الاسلامية في الجامعات المصرية بالانتماء للاخوان المسلمين.
في دراسة أعدها في سجن برج الرومي ( 1983-1984) مساهمة منه في "مشروع الأولويات" الذي أقرته مؤسسات الحركة بعد إعادة تشكلها في خريف 1982، والذي كان "التقييم" محوره الأول، خصصها لدراسة ما سماه "ظاهرة الانشقاق في الجماعة الاسيلامية بتونس"، كتب الشيخ راشد الغنوشي في مقدمتها ما يلي:
"لقد كانت انطلاقة التجربة التنظيمية للمجموعة سنة 1971 في غياب نظرية تنظيمية ورؤية سياسية وفكرية واضحة، مع تفاوت في التكوين الأساسي لدى المؤسسين، باعثا لبروز ظواهر من القلق وعدم الارتياح منذ وقت مبكر (1973)، وكانت درجة هذا القلق متفاوتة من شخص لآخر في المجموعة بحسب التكوين الثقافي والعقلية والمزاج وطبيعة الخطط التي يشغلها كل واحد، وكان طبيعيا أن تكون العناصر التي وفر لها تكوينها الثقافي ومركزها في الحركة فرصا أكبر للحصول على معلومات أوفر حول الأوضاع الفكرية والسياسية في الداخل والخارج، أن تكون ظاهرة القلق لديها أبرز".
وهي مقدمة كافية لوضع الانطلاقة والمرحلة الأولى في إطارها الصحيح: ظاهرة اجتماعية تتلمس طريقها داخل المجتمع، وفي نفس الوقت كانت تتشكل هويتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، وتتشكل معها رموزها وقيادتها. كل ذلك ضمن تلك المحددات التي ذكرتها المقدمة: "التكوين الثقافي والعقلية والمزاج والخطط التي تقلدها" ويمكن أن نضيف أيضا الحالة الاجتماعية والمهنة والمنحدر الجهوي وما إلى ذلك.
هذا التشكل للأبعاد الثلاث في آن واحد، إذا نظرنا إليه من زاوية المقاربات المنهجية المختلفة لعلم الاجتماع، سيكشف لنا عن تهافت كل القراءات التبسيطية للظاهرة، كما سيبرز لنا سطوة المحددات التكوينية على سيرورة الحركة وصيرورتها.
تاريخ أول نشر 2025/2/23