1. لنجيب عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نعرف المقصود باليسار.
دون أن نٌضطَرّ إلى التقعّر في الأقوال كما يفعل الأكاديميّون المتعالمون نقول، ببساطة، إنّ اليسار عكس اليمين. ولنحدّد اليسار نحتاج إلى معرفة اليمين.
فمن هو اليمين في تونس وفي البلاد العربية؟
اليمين مصطلح يُطلق عادة على الجهة المحافظة التي لا تبحث عن تغيير الأوضاع تغييرا جذريّا يقلب ميزانها المختلّ.
2. دون خوض في التعقيدات التنظيريّة، يتكوّن المجتمع السياسيّ من سلطة حاكمة على يمينها جهة منتفعة من الأوضاع تتشبّث بها وتقاوم كلّ محاولة لتغييرها. ذلك هو اليمين. أمّا اليسار فتُقصد به الأطراف التي تعمل على تغيير الأوضاع لا لفائدتها، بل لمصلحة المجتمع كلّه. ومصلحة المجتمع تكون في الحرية والعدالة المفقودتين في غياب التغيير.
3. في تونس اكتشف بعض رموز اليسار، في لحظة ما من لحظات عودة الوعي، أنّهم أبناء بورقيبة الشرعيّون ومعارضتهم له لم تكن أكثر من تذكير له بمشروعه التحديثيّ، وبذلك فهم أبناء دولته وليسوا ضدّا لها. طلبة اليسار الذين خاضوا تجربة معارضته في سبعينات القرن الماضي استقبلهم في قصره بعد خروجهم من السجن.
وظلّ اليسار، بعد ذلك، داعما لبن علي ولم يتخلّ عنه إلّا بعد أن هرب، ما عدا بعض الاستثناءات. وتلك الاستثناءات ليست أكثر من هامش مشاغب تحتاج الدولة إلى مشاغبته لتبدوَ في صورة القابل بالمعارضة حتّى في صورتها "الراديكاليّة". والراديكاليّة لا تتجاوز الخطاب. لقد عهد بن علي إلى اليسار بلجان تفكيره التي نسجت له شرعية استمرّت ربع قرن من الزمان التونسيّ الحديث. وما يردّده اليسار، الآن، في شأن خصوم بن علي، هو خطاب لجان تفكيره تلك.
4. وفي عشرية الانتقال الديمقراطي تكتّل كلّ اليسار للإطاحة بالتجربة الوليدة وكان أداة من أدوات الإجهاز على الديمقراطية الناشئة في بيئة عربية رافضة للديمقراطية، بدعوى محاربة الرجعية ممثّلة في الإسلام السياسيّ.
لقد انتبه اليسار إلى أنّ الإسلام السياسيّ ممثّلا في حركة النهضة خطر مقيم وجب العمل على استئصاله. حاولوا ذلك باعتماد المحرقة في عهد بن علي، وفشلوا. وحاولوا في الحقبة الديمقراطية باستغلال مناخ الحرية باعتماد التشويه والسحل والأراجيف وكيل التّهم، ولم يفلحوا. ولا يزالون يحاولون. لقد تركوا كلّ همومهم وتخلّوا عن جميع مشاريعهم واستفرغوا وسعهم في حربهم الوجوديّة المقدّسة على حركة النهضة، ولا تزال حربهم عليها لم تضع أوزارها. ولو أنّهم صرفوا جهودهم في حربهم عليها إلى تعمير البلاد لالتحقت تونس بالعالم المتقدّم.
5. اليسار يمين مستتر. وقع عليه تحوّل بعد نهاية الحرب الباردة. بسقوط جدار برلين وتراجع المدّ الشيوعي في العالم خاف اليسار على نفسه من الاقتلاع فتترّس بالدولة التي كان، من قبل، يعارضها معارضة جذريّة وينادي بثورة وطنيّة ديمقراطية تعتمد العنف الثوريّ لا تبقي من الأوضاع على شيء منها لبناء المجتمع الشيوعيّ اللا طبقيّ. انتبه اليسار في زمن القطب الواحد إلى أنّه ابن الدولة الوطنية التي يرى فيها دولة حداثة وهو ابن لهذه الحداثة. لم يعد يطمع في الثورة بل صار أبرز ممثّل للمحافظين الجدد.. المحافظين على الحداثة بالمحافظة على الدولة.
وليس أدلّ على يمينيّة اليسار، الآن، من التقائه الموضوعيّ مع الانقلابات على الثورات تحت رعاية دول عربيّة نفطيّة مطبّعة مع الكيان العبريّ يُفترَض أنّها، في خطاب اليسار، دول رجعيّة متخلّفة.
6. لقد نسي اليسار التونسي مراجعه. ضلّ طريقه. كان معولا في يد دكتاتورية عاثت في البلاد فسادا وانتهت بهروب زعيمها وعرض خدماته ليكون مرّة أخرى معولا في يد شعبويّة عارية تبطش بالحقوق والحريات وتعبث بالعدالة. هذا اليسار بات يخشى على نفسه خشية تصل إلى حدّ الرهاب من الحقوق والحريات ومن ديمقراطية لا يرى له مكانا فيها. لذلك يتقوقع على نفسه من فرط الهلع. وينفي عن مخالفيه الحقوق الإنسانية الدنيا.
7. لقد ضلّ اليسار طريق يساريته وقلب، بكامل إرادته، معادلة (يمين/يسار). واختار لنفسه موقع اليمين. المحافظ.. الجديد.
هذا اليسار المفاخر بيساريته بات عاريا منها، لا يفعل شيئا غير استهلاك الحياة والتقعّر فيها بالثرثرة.
يسار بهذا الشكل لا أظنّ أن تونس تحتاج إليه.
وما حاجتها إليه؟
ما هي الإضافة التي تنتظرها البلاد منه؟
تاريخ أول نشر 2025/6/1