search

هل علي ان أكتب حول الإمام القرضاوي؟

وماذا عساي أن أقدم أو أضيف، وفي الناس من يعرفه أفضل مني، وفيهم من صلته بعلمه وعطائه أكبر من صلتي به؟

لكنني ساكتب شهادة أهل الدنيا في رجل غادرهم للدار الآخرة لا يرجو بشهادته جزاء ولا شكورا ... أكتبها للأحياء ... تعريفا لأهل الفضل بفضلهم وإنزالا للناس منازلهم.

منذ تسعينات القرن الماضي وقبل أن يقبض الله روح شيخنا الشيخ الغزالي ... كنت أكتب وأقول أن لنا شيخين : الغزالي والقرضاوي ... وعندما أقول الشيخان فلا يعني ذلك عندي إلا هما .... جمع الله فيهما ما تفرق في غيرهما وتكاملا تكاملا بديعا ... رغم اختلاف المزاج وبعض زوايا الرؤية ومنهج التفكير والأداء ... كان الغزالي أصولي وإن غلبت عليه صفة الداعية وكان القرضاوي فقيه بالأساس رغم أصوليته .... لكنهما اجتمعا على قوة الصلة بالواقع وعمق النظر في الكتاب والسنة ...

كان الاثنان ينتميان لمدرسة البنا، وكلاهما لم يجدا في من بعده ما وجداه عنده، فقها في الدين وفقها في الحياة .... فشقا طريقا مميزا ... بقدر ما تمسكا بما تعلماه وعاهدا عليه البنا، بقدر ما سعيا لشق طريق في التعاطي مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بعيدا عن "جبة التنظيم" خاصة في منحاه القطبي، الذي صيغ في اتون المعركة السياسية ومن ملاحم السجون ....

كانا مبكرا ضمن الكوكبة الناقدة من داخل الاخوان، والتي كانت أبرز إنتاجاتهم تنشر في مجلة المسلم المعاصر خاصة . كما كانا علمي الصحوة في السبعينات، حيث تصديا للبناء الفكري والدعوي للصحوة كتابة وخطابة في مصر وخارجها، وتأهيلا تربويا وميدانيا وتوجيها فكريا .

ورغم أن القرضاوي كان أقرب للتنظيم، إلا أنه حافظ مع ذلك على استقلاليته الفكرية ولم يتخل عن مهمته العلمية ... وقد أوتي قدرات واستعدادات ذاتية على الانتاج الفكري والعلمي، وعلى التصدي للقضايا الفكرية المطروحة على الساحة، في حضور لافت وإمكانيات كبيرة للإصغاء والحوار والمتابعة وتقديم الرؤى.

القرضاوي عقل فقيه كبير ... وعندما تقول فقيه يعني أن النص هو الأساس عنده. وهو حريص كل الحرص حتى في كتاباته واستدلالاته على أن يجعل مرجعية فكرته وفتواه نص سابق، إن لم يكن اجتهادا سابقا استطاع استخراجه من مضانه، فعلى الأقل منهج سابق حضي بالقبول ... وظني أنه يفعل ذلك انطلاقا من اعتباره لمكانته كفقيه بالأساس، ورغبة في جعل رؤيته وفكرته قادرة على اختراق فضاء يسيطر عليه النظر الفقهي التقليدي .... إن الجدلية التي يقيمها القرضاوي بين النص والواقع، تجعل ما ينتجه يأخذ من وجه صيغة "تبرير الحوادث" من خلال إثبات صلتها بالنص أو استيعاب النص لها. ولا يمكن ان نطالب العقل الفقهي باكثر من طاقته، إذ هو عقل يقوم على القياس أساسا : قياس الواقعة، إما على ما يشبهها من الوقائع السابقة، أو على نص جامع. والنص هنا هو عموما نص اجتهادي، أي اقوال من سبق وليس النص المؤسس قرآنا كان أو سنة.

لكن قوة حضور الواقع في وعي القرضاوي، أجبره على أن يكون أكثر قدرة على التعامل مع النصوص استنتاجا وتاويلا. وقد برع في ذلك وزاده براعة ملكة قوية في الحفظ ودربة متراكمة على التحقيق .

ولذلك فالناس عموما تجدهم أميل لتقبل ما يقدمه القرضاوي بمنهجه الفقهي في الاستدلال، على ما يقدمه الغزالي بمنهجه الأصولي الذي لا يحفل كثيرا بالاستدلال التقليدي، وأكثر من ذلك ما يقدمه الترابي وهو أبعد من الغزالي نفورا من المناهج التقليدية في الاستدلال والنظر .... يبدو الأخيران عند الكثيرين تغلب عليهما "الجرأة " في التعامل مع النص المؤسس مباشرة، إذ يغوصان فيه بدون الاتكاء على "فقيه" سابق، وأحيانا يكون رأيهما معارضة لفقيه مشهور أو لإجماع مدعى.

والحقيقة أن القرضاوي بمنهجه ذلك، استطاع أن يفتح فتوحا كبيرة في واقع يغلب عليه الجمود في الفكر والحركة.

ولئن لم يكن القرضاوي "جريئا" في التعامل مع النص، إلا أنه كان جريئا في التعامل مع الواقع، حيث قاد مبادرات كبرى لا ينكرها إلا جاهل أو جاحد ... فقد استمع مبكرا لتساؤلات أبناء الحركة الاسلامية وانتقاداتها لمنهج الحركة في التغيير، وتفاعل معها بشكل إيجابي، بل إنه استفاد منها وطور أفكاره، وانتبه الى مجالات كانت مطمورة بأثقال الفقه التقليدي واكتساح العقلية السلفية لفضاءات الحركة الاسلامية ... كان يحسن الاستماع ويحسن التفاعل، ويسبك ذلك في رؤية يقدمها بطريقة مناسبة لوعي الناس واستعداداتهم.

لقد تفاعل بشكل إيجابي مع أفكار الترابي "الأصولية" والغنوشي "السياسية" واستفاد من نقد وتحليل كوكبة العائدبن من الضفة الأخرى كعادل حسين وطارق البشري وعبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة وفهمي هويدي. كما ارتاد منتديات النخب الليبرالية واليسارية والقومية وشاركهم بعض منابرهم وتفاعل معهم وتفاعلوا معه.

واجه الاشكاليات الفكرية التي طرحت في السبعينات وما بعدها مثل العلمانية والتراث والعقل والنص والمقاصد وغيرها. وبقدر ما بسط فيها رؤيته بقدر ما ساهمت تلك الاشكاليات في تعميق رؤيته وتجديد مفاهيمه.

وللقرضاوي قصب السبق في ريادة مشاريع كبرى بالفكر والمساهمة المتقدمة في الواقع. كما في مشروع البنوك الاسلامية ومشروع العمل الخيري و القضية الفلسطينية والاقليات الاسلامية والمجلس الاوروبي للافتاء والاتحاد العالمي لعلماء المسلمبن إضافة لدوره المتميز في المجامع الفقهية .

قد يكون القرضاوي الوحيد الذي بلغ ما يشبه الموسوعية في عطائه الفكري في مجال العلوم الاسلامية. فقد كتب في أغلب تخصصاتها كتابة المتخصص المتضلع .

هل يمكن ان نعتبر القرضاوي مجددا ؟ إذا توسعنا في معنى التجديد فلا شك أن القرضاوي مجدد، والتجديد هنا بمعنى أنه قدم للأمة منهجا جديدا في فهم الاسلام وفي العمل له وفي إصلاح الأمة وتحويلها من حال التخلف والهزبمة الى حال الوعي والنهوض.

لا شك أن للقرضاوي منهجا سعى عبر عمره الطويل لتثبيته فكرا وممارسة، لكنه في تقديري ليس تجديدا بالمعنى العميق للكلمة ... التجديد الذي يؤهل أمتنا لدورة حضارية كاملة.

وأنا في موضوع التجديد أتبنى تأويل القرضاوي نفسه لحديث تجديد الدين، الذي لا يعني بالضرورة أن المجدد فرد بل يمكن أن يكون تيارا أو حركة، وهو الأقرب خاصة في أزمنتنا هذه وما سيليها .

وهذا لا يعني انتقاصا من عطاء شيخنا القرضاوي، الذي امتد متميزا منذ باكورة أعماله "الحلال والحرام" إلى خاتمتها "فقه الصلاة". ومعها مبادرات واجتهادات وريادة ومساهمة في تغيير الواقع وتقديم نماذج عملية من رؤى الحركة الاسلامية وبرامجها وحلولها لمشاكل المجتمعات المسلمة ...

كان إماما بحق وعلما في رأسه نار ... نار شعلة الانتصار للحق والحرية وللكرامة ... والانتصار للاسلام والمسلمين ... والدعوة لخير أمة الاسلام وخير الإنسانية ...

تاريخ أول نشر 2022/9/26