قرأت دفاعا طويلا لمؤرخ تركي يعدد فيه الجهود التي بذلها العثمانيون في مساعدة أهل الأندلس، كما يبرر في مستوى آخر بالمؤامرات والضغوط التي كانت تعانيها الإمبراطورية في محيطها الجيوسياسي آنئذ.
ومع وجود كل ذلك لم يتطرق المؤرخ التركي إلى الطموحات العثمانية في الإمتداد شمالا وغربا. الشيئ الذي تكشف عن وصول الجيوش العثمانية إلى فيينا وانكسارها على أسوارها. ذلك الانكسار الذي ينسب لفيلسوف الحضارة مالك بن نبي "حمده" له، لأن انتصار الجيوش العثمانية لن يكون له من مزية غير توسع عقل ما يسميه "إنسان ما بعد الموحدين" الاسلامي الهابط في سلم الحضارة والعمران. ذلك العقل الذي لم تستطع الخلافة العثمانية أن توقف مده الزاحف على ربوع الرقعة الاسلامية الممتدة، ولا على العقل الاسلامي الذي جمد خلاياه وشل إرادة حامليه وأصاب طاقته بضمور لا تزيده الأيام إلا تقلصا.
لو كان العثمانيون يملكون عقل ما بعد صفين ولا نقول بقية من الدفقة الإيمانية لما قبل صفين - بتصنيف مالك بن نبي - لأدركوا أن إنقاذ الأندلس ليس مجرد إنقاذ قطعة أرض، ولا إنقاذ أهلها، وليس مجرد صد زحف الغزاة الصليبيين البرابرة، وإنما هو الاحتفاظ بمشعل الحضارة والعمارة في العالم الاسلامي، واستمرار نهر الحياة المتجدد لمجراه الطبيعي من شرق الروح إلى غرب البشرية الرازح في أغلال التخلف والتوحش.
عقل مسلم "ما بعد الموحدين" بمصطلح بن نبي، لم يستوعب ما تعني الأندلس، واعتبرها مجرد قطعة من الأرض، يمكن أن يستردها في يوم ما، بمجرد ما يحسن وضعه الجيوسياسي ويحمي ظهره. وهو الوضع الذي لم يتمكن من الوصول إليه، رغم الجهود الكبيرة التي بذلها. وهو بذلك أضاع الأندلس كأرض، وقبل ذلك أضاع الأندلس كحضارة وعمران. ذلك العمران الذي اضطر للتسلل إلى الرقعة الغربية الناهضة، والباحثة لا على مجرد الانتصار العسكري وإنما أيضا التمكن الحضاري.
وكل المطلعين على "تسرب" عناصر الحضارة الاسلامية الاندلسية الى ديار الغرب، يدركون كيف أن ذلك التسرب هو الذي بنى عليه الغرب قواعد نهضته ولم ينقطع مدده لحد الآن. و هو ما يشهد به كبار مؤرخي العلوم جميعها عندهم. لا بل إن أهم من انتقال العلوم هو انتقال الروح التي أنتجتها أو ما يمكن أن نسميه أخلاق العلم والعمل.
لم يكن العقل العثماني قادرا على الانتباه لكل ما كانت تعنيه الاندلس، فقد تشكل ذلك العقل مع بلوغ دفقة الروح الرسالية إلى أدنى طاقة دفعها، واستسلم لقدرية بدائية، وتمثل استسلامي صوفي، أغرق شيئا فشيئا عقل الكد والجد وقيم الواجب والاجتهاد، ولم يبق منه إلا سيف الغزاة والمستبدين، في عودة لما قبل الدفقة الرسالية من قيم الغزو والعيش تحت سنان الرماح.
واليوم، يكاد التاريخ يعيد نفسه، حيث نرى العقل التركي - عقل أردغان - يسير سيرة أسلافه العثمانيين، منشدا لحسابات جيوسياسية، في ذهول عن التحديات الجيوستراتيجية والواجبات الحضارية، ناظرا إلى فلسطين على أنها مجرد أرض، سيأتي دور تحريرها بمجرد ما يفرغ من تسوية ما حوله من عراقيل، وحتى يستكمل عدته، وبعضها سيشتريه من خصمه الحضاري الذي يدمر غزة الآن، لا فقط يساعد الكيان الغاصب فيها والذي زرعه بوعيه وتخطيطه ومدده ورعايته.
إن مجرد النظرة لفلسطين على أنها "أرض مقدسة" لا أكثر - على أهمية ذلك - هو إدراك بعيد عن الرؤية الحضارية، بل وحتى أقل من ذلك، إنه إدراك بعيد عن الرؤية الجيوستراتيجية.
ففي فلسطين تتجمع كل القيم والمبادئ وفيها يختزل التاريخه كله ماضيه وحاضره ومستقبله، وفيها يمتحن العقل المسلم في فهمه ووعيه وإيمانه بمعنى الانسانية والكرامة والحرية والحضارة والاستخلاف.
ولشد ما يكون الامتحان عسيرا حين يلجأ "السلطان" إلى مناورات العقل السياسوي في ألعابه الصغيرة، والاستعاضة عن الفعل بهدير الكلمات والصرخات الجوفاء أمام قوافل آلاف الشهداء الغزاويين ويعجز حتى عن قطع المدد الغذائي عن الكيان الغاصب في الوقت الذي يموت فيه الغزاويون جوعا.
وأختم بسؤال طالما أهمني ولا زال: هل يصلح عقل وأرض تخلفت يوما ما عن رسالتها الحضارية واكتفت منها بالعيش تحت ظلال السيوف أن تقود دورة حضارية جديدة ؟