بكثير من الألم و الوجع و الآهات نتابع ما يجري لأهلنا في غزّة , من إبادة وحشية طالت الأخضر و اليابس , حولت مدن و قرى إلى ركام من حديد و حجر و نار تئنّ تحته عائلات أمواتا و نصف أموات و لا يجدون حتى من ينتشلهم - تحت مرأى و مسمع من العالم , بتشفّ و حقد أعمى من القريب قبل البعيد .
حتى أن كثير منّا بلغ به المٌصاب حدّا لا يوصف من الشعور بالغبن و السخط و الخذلان لعدم قدرته نصرة إخوة له في الدين و الدم , نصرة قد تشفي غليله و ترضي غروره , نصرة يكون معها قد إستوفى حق أخيه عليه في ردّ الظلم و دحره عنه, نصرة تتخطّى الدعاء و قيام الليل و تتجاوز الممكن و حتى الغير ممكن , لكي يهنأ قلبه و تسعد روحه و يطمع أن يكتب بها عند الله من الصديقين و الشهداء.
و نحن نتابع ما يجري و تمر أمامنا الصور و المشاهد التي تدمي القلوب و تمزّق الأفئدة و تذرف لهولها و لبشاعتها العين دموعا حارة غبنا و حسرة.
لنجد أنفسنا نتساءل:
يوم وقوفنا أمام الله ,هل يشفع لنا الدعاء وحده نصرة و عونا لإخواننا في غزّة؟
هديا من الله تعالى لعباده و إقتداءا برسولنا الكريم صلّى الله عليه و سلم , إعتمد المسلمون الدعاء وسيلة للتقرّب من الله و طلبا لإصلاح أمر دينهم و رغبة في التيسير و التوفيق لسائر حركات حياتهم الدنيوية, ذلك لتمام إيمانهم الجاد و العميق بأن اللجوء إلى الله و التوسل إليه هو من خالص الدين ، و من سنن الانبياء و المرسلين و الصالحين من عباده.
فالدعاء عند المؤمن الحق هو المنجى و المفر من كل ضيق ، فلا ملجأ من الله إلا إليه , و الدعاء هو السبيل الأمثل لطلب المعونة منه على كل نازلة قد تصيبه في دينه و دنياه.
و ما وصلنا من أثر عن السلف الصالح رضوان الله عنهم , أنهم عند الشدائد و المصائب التي قد تحل بالمسلمين عامة، يركنون الى الله عز وجل بالدعاء جهرا و خفية و قياما لليل أفرادا و جماعات، طلبا للنصرة و عونا على الشدائد .
غير أنهم عند المعارك و صدّ العدوان ما كانوا يتوجهون بدعاءهم الى الله إلا بعد أن يستوفون حق ما عليهم من تهيئة لأسباب النصر بالمال و النفس و بذل أقصى الجهد لتوفير كل ما تحتاجه المعركة من نصرة و تحفيز .عندها فقط يصير الدعاء لديهم وسيلة يعتدّ بها كأحد أهم ركائز مشروع النصر.
و قد بين أحد الشعراء لمعنى ضرورة عدم الإقتصار على الدعاء بحثا عن نصرة و صدّ لعدوان, حيث قال :
إسلامنا لا يستقيم عموده
بدعاء شيخ في زاويا المسجد
إسلامنا لا يستقيم عموده
بقصائد تتلى لمدح محمد
اسلامنا نور يضئ طريقنا
إسلامنا نار على من يعتدي.
و تسليما منا بعدم القدرة على غير الدعاء , جعلنا من الدعاء السبيل الوحيد المتاح و الممكن لنا حتى نوفي حق أهلنا علينا من واجب الغوث والمؤازرة ,و ما نتحجج به و تقنع أنفسنا به , هو آستحالة بلوغنا ما فوق الدعاء و قيام الليل درجة, لأننا نحيا تحت وطأة سلطات أحكمت غلق المنافذ المؤدّية إلى مدّ أبسط شكل من أشكال العون مهما كان لأهلنا غي غزّة.
و باتت قناعتنا شبيهة بما قال شاعر
لا خيل عندك تهديها و لا مال*** فلتسعد النطق إن لم تسعد الحال.
غير أن واقع الحال ينبئنا بما هو أعمق و أشمل من أن نحصر المعركة على أنّها قطريّة و أن مداها لا يتعدّى حدودا جغرافية ضيقة .و أن مصيرها لا يعنينا مباشرة و تبعاتها بعيدا من أن تؤثّر على مسيرة شعوبنا العربية نحو التحرر و الإنعتاق من التبعية.
و الحال أنّ واقعنا ينبئنا و دون مواربة أننا نشهد معركة من معارك التحرّر و أن مهمتنا واحدة و مصيرنا واحد من المحيط إلى الخليج , و قدر الله فينا مواصلة مسيرة الجهاد نحو تحقيق النصر ، النصر الذي وعده الله عباده المؤمنين ، و أن بلادنا العربية دون إستثناء, ترزح تحت ظلم و قهر قوى استحكمت قبضتها حتى تمكّنت ، فزرعت بين مفاصل و أجهزة بلداننا جنودا من الشياطين و الانس منا و علينا، تحمي بهم مصالحها ، و ترعى تنفيذ مخططاتها بحرفية شيطانية جهنمية , لتضمن لها عمرا أطول في بسط نفوذها ، و مجالا اوسع لاستغلال مقدرات الأمة و ثرواتها.
كما بات جليا لكل عاقل أن عدوّنا واحد و إن تلوّن . و ان مصير معاركنا يعود لنا و علينا جميعا، و أن تحرير فلسطين و كل البلاد العربية يمر حتما بكسر كل القيود التي تكبلنا و تحطيم كل أصنام الجهل و التبعية للعدو ، و التخلص حتما من كل ما يعيق تقدم مسيرة التحرر و التحرير الكاملة و الكبرى للأمة.
عندما ندرك كل هذا ، ندرك ان لنا مجال اوسع من ان نقتصر على الدعاء و قيام الليالي ، و أنه بامكاننا اعداد العدة للنصر ، و توفير ما تحتاجه معاركنا القادمة مع العدو ، و هذه بالضبط مهمتنا التي إختصّنا بها الله, فما لا يتم الواجب الا به فهو واجب..
عندها ندرك ان لنا قدرة أكبر على مشاركة فعلية وازنة و أنّه بإمكاننا و من موقعنا التأثير على مجريات الأحداث بآعتبارنا طرفا في المعركة , لا شاهدينا على عصر هزائم مخزية تتكرّر ،و ما نراه اليوم من بطولة للمقاومة في غزّة هو حجة علينا ، لا لنا. و أن المهمّة المنوطة بعهدتنا كمسلمين تتخطّى الدعاء .و تستوجب جهودا و وقفة في وجه العدو ،عدوّ لا تفصلنا عنه سوى مسافة صفر .
و هذا بالضبط ما سنحاسب عنه يوم القيامة. عندما ينادي الله: لمن الملك اليوم؟