تقديم الوثيقة:
كان هذا البيان الصادر باسم "الطلبة المسلمون" الذي يغلب على الظن أنه علق في الكليات التي للاسلاميين فيها تواجد كاف لحمايته من "الهياكل النقابية المؤقتة"، والذي لم يجد طريقه للنشر في الصحافة التونسية، التي يسيطر عليها الحزب الحاكم إلا من جريدة الرأي، التي ظهرت قبيل الأحداث بقليل. لكن البيان نشر خارج تونس في نشرية الاخبار، لسان حال "الاتحاد الاسلامي العالمي للمنظمات الطلابية" التي تصدر في الكويت، ويديرها المرحوم مصطفى محمد الطحان رئيس الاتحاد.
يذكر الشيخ راشد في أربعينية المرحوم عبد الرؤوف بولعابي، أن البيان تمت صياغته في بيته في سوق البلاط في المدينة العتيقة. وهي إشارة إلى أن البيان في حقيقته بيان الجماعة وليس فصيلها الطلابي، وأن نشره باسم الطلبة تم تجنبا للمساءلة القانونية في الأغلب.
يعتبر البيان تصحيحا للموقف من الاحداث الذي صدر في مجلة المعرفة، الذي كان باجتهاد محرريها وليس موقفا رسميا للجماعة. وهو الموقف الذي تمت مهاجمته من طرف التيارات اليسارية آنئذ، خاصة في الجامعة أين كان الفضاء يسمح بالتعبير عن المواقف السياسية. وعلى هذا الأساس من الطبيعي أن يكون للفصيل الطلابي الذي كان قد دخل منذ مفتتح السنة الجامعية 77-78 في خطة "فرض الحريات" في الجامعة، رافعا شعار: نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في البلاد". وكانت بداية تنفيذ الخطة من خلال اول تحرك منظم لفرض الحق في التعبير في كلية العلوم في 26 ديسمبر 1977، وأدى الى مواجهات دامية بين الإسلاميين والفصائل اليسارية خاصة في كلية العلوم بتونس وكلية العلوم بصفاقس حديثة التكوين.
يكشف البيان عن مستوى الوعي السياسي للجماعة انذاك، بدء من لغته والمصطلحات المستعملة فيه، كما يحمل داخله المؤثرات الفكرية والسياسية، وطبيعة العلاقة مع الآخر، وخاصة النظام والتيارات الماركسية. كما يؤشر أيضا الى بداية تحول في تصنيف المنافسين والخصوم والقاعدة التي يرتكز عليها، حيث نرى العامل السياسي يدخل الى جانب العامل العقائدي الذي كان مهيمنا حتى ذلك الحين.
تم إمضاء البيان باسم "الطلبة المسلمون" وهي تسمية تحمل الثقل العقائدي مقابل "الطلبة الشيوعيون" منافسهم العقائدي الأشرس. لكن هذا الاسم سرعان ما تخلى عنه الجناح الطلابي ( وربما يكون هو البيان الوحيد الذي تم بذلك الإمضاء) واختار اسم "الاتجاه الاسلامي"، الاسم الذي ستتبناه الجماعة بعد الاعلان عنها في 6 جوان (يونيو) 1981.
ينتصر البيان للاتحاد العام التونسي للشغل انتصارا واضحا، ويلمز من قناة للتيارات الماركسية التي قد تكون وراء احداث وتحركات فوضوية، لا تقبلها الجماعة تمت تحت ستار الاتحاد.
يدين البيان النظام والحزب الحاكم ادانة كاملة، ويحمل سياسته منذ الاستقلال كل ما آلت اليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية.
يدين بشكل لافت الاستنجاد بالجيش، ويدعو لعودته الى ثكناته، ويحذر من استمرار تدخله في الحياة السياسية. وربما عكس هذا الموقف توجس الاسلاميين من "الأنظمة العسكرية" التي كانت أكثر الأنظمة عدائية تجاه الحركة الاسلامية.
ويختم البيان بالدعوة للحوار بين كل الاطراف بدون اقصاء.
يحتاج البيان قراءة موسعة وأكثر عمقا قد نعود لها في مناسبة أخرى، وهو بيان يمثل اول استجابة لتحدي الصدمة التي سببتها الاحداث في وعي الجماعة، وانفتحت به على تطور متسارع في بنيتها الفكرية زادته الاحداث المتتالية على الصعيد الوطني والعالمي تطورا وتعمقا.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
تعليق حول أحداث جانفي 1978
يوم فاصل في تاريخ تونس!!
لقد كان يوم الخمس 26/ 1978/01 يوما فاصلا في التاريخ الحديث لتونس البلد الذي كثيرا ما تبجح مسيروه بما يسوده من هدوء واعتدال ورصانة وسط عالم مضطرب، فأظهر يوم الخميس أن هدوءه من قبيل هدوء العاصفة توشك أن تثور غضبا شعبيا صاخبا، وحرائق بشعة ومعارك استعملت فيها الحجارة والعصي من طرف الجماهير الغاضبة للوقوف في وجه الشرطة المسلحة بالقنابل المسيلة للدموع والرشاشات، ولم يتورع النظام، الذي فقد كل رصيد شعبي عن الاستنجاد بالجيش فطفق يطلق الرصاص في كل مكان ويودي بحياة الكثير من الضحايا الذين بلغ عددهم ما لا يقل عن مائتين وخمسين قتيلا فضلا عن مئات الجرحى والمعتقلين ومنهم أبرياء لا صلة لهم بالحوادث فكان يوما رهيبا، لا تسمع فيه إلا صفارات الإنذار وأزيز الرصاص وفرقعة الدبابات ودوي الطائرات ،، يوما يذكر بالحرب الأهلية في لبنان ،، لم ينته إلا بإعلان حالة الطوارئ في كل البلاد، وتقييد الحريات العامة، حرية التجمع والإضراب والتظاهر وحتى التجول بين السادسة مساء حتى الخامسة صباحا، وانتصب الجيش في الساحات العامة مدججا بالسلاح وقد أذن له في إطلاق النار على كل من يخالف الإجراءات المتخذة حتى تتاح للشرطة تصفية العناصر المعارضة كما صرح بذلك الوزير الأول.
وحري بالمواطن التونسي أن يقف طويلا أمام هذه الأحداث البالغة الخطورة، يحلل :كيف حدث كل ذلك وما هي الدوافع أو النتائج؟
كيف حدث كل هذا ؟: لقد كانت هذه الأحداث الخطوة الأخيرة في طريق طويل زج الحزب الأمة في منعرجاته، نكتفي هنا بالإشارة إلى الخطوات الأساسية في ذلك الطريق طريق الانتحار.
إن الحزب الاشتراكي الدستوري كأغلب الأحزاب في العالم المتخلف لم يكن برنامجه يوم نشأ يتعدى التصدي للوجود الاستعماري في البلاد وتجنيد طاقات الأمة لطرده حتى إذا تحقق ذلك واستقلت البلاد واجه الحزب سياسة البلاد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بغير برامج وحلول مسبقة إذ لم يكن رجال الحزب لا من المسلمين الواعين ولا من الغربيين الأصيلين مما دفع الحزب في غياب الأيديولوجية الموجهة إلى سياسة التلفيق. فلفق من هنا وهناك سلسلة من برامج التنمية انتهت بالفشل الذريع ومع كل فشل لمخطط تطيح قيادة الحزب بعدد من المسؤولين في الحزب والحكومة،، حتى أن هؤلاء المطرودين شكلوا اليوم أغلب قيادات المعارضة- جماعة بن صالح وجماعة الديموقراطيين الاشتراكيين (المستيري) وجماعة الاتحاد العام التونسي للشغل - فكل هؤلاء إفرازات لجسم الحزب الآخذ في التحلل. ومع كل فشل يفقد الحزب رصيدا من شعبيته حتى غدا هيكلا فارغا أجوف كالطبل، ومع كل ما مني به من فشل في مخططاته الاجتماعية والاقتصادية لم تستطع قيادة الحزب أن تعيد النظر في العقلية المتحجرة والأساليب العتيقة التي واجهت بها المجتمع التونسي رافضة كل تطور ومراجعة، وصارت تونس الأمة وكأنها قطيع يسلى بالترغيب والترهيب والدجل دون أن يقرأ أي حساب لفارق الزمن بين 1956 و1978 وما طرأ خلال كل هذه المدة على الشعب التونسي من تطور بفعل انتشار التعليم والثقافة وتعقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانعكاس التيارات الفكرية والسياسية العالمية عليه، فلم تعد أساليب الكذب والمغالطات تؤثر فيه ولا تذكيره بوقائع من كفاح بورقيبة كافيا لتبرير كل الممارسات السيئة للدولة والحزب.
وظل الحزب بتزمت شديد- يمارس مع خصومه نفس أساليبه العنيفة: كرميهم بقصر النظر وبأنهم شرذمة حاقدة- تهدد مكاسب الأمة وفي كل مرة تتهاطل البرقيات المستنكرة المنددة بأعمال الفئات الضالة، تطالب بالضرب بشدة على أيدي العابثين وظل الحزب مصرا كل الإصرار على أن يبقى وحده على ركح السياسة في البلاد وكأنه بهلوان في كوميديا عابثة مما ولد في النفوس حالة من الضيق شديدة وجوا مختنقا واستعدادا كبيرا للثورة.
اعتمد الحزب نموذجا اجتماعيا يكرس الفوارق الشاسعة بين الفقراء والأغنياء فنشأت في المجتمع التونسي طبقة تجمع بين سلطة الحكم وسلطة المال حتى غدت المسؤوليات في الحزب والحكومة أقصر طريقة للإثراء السريع فشاعت أخبار الاستهتار بالأموال العمومية واجتمع الشعور بالحرمان لدى الطبقات الشعبية الشعور بالحنق على القطط السمان بما جعل المطالب النقابية تتكاثر يوما بعد يوم خاصة وموجة الغلاء تكتسح السوق، وأصوات العمال ترتفع عالية لتضغط بشدة على القيادة النقابية.
اعتمد الحزب نظاما تربويا يكرس التبعية الثقافية للغرب ويضع موضع شك المقومات الحضارية والإسلامية للأمة، مما جعل الشباب التونسي مسرحا للصراعات الأيديولوجية، وكان الجو الثقافي والاجتماعي أكثر ما يكون ملاءمة للأيديولوجية الماركسية التي مكن النظام لعناصرها مراكز هامة في الجهاز التربوي، فأضاف إلى استفزاز الحزب للمشاعر الدينية استفزازا آخر.
في ميدان الترفيه والفنون شجع الحزب تيار اللهو والميوعة لصرف الشباب عن المشاكل الحقيقية فغدت الرياضة صنما يعبد، والثقافة فولكلورا صاخبا، والملابس معرضا للأجساد الفاتنة، والفنون دغدغة للشهوات.
اعتمد الحزب في ميدان أمنه الداخلي على أسلوب الميليشيا المسلحة الذي اعتمد عليه منذ نشأته فى القضاء على الحزب القديم، واعتمده مرة أخرى غداة الاستقلال لاستئصال العناصر اليوسفية في صباط الظلام - وغيره، واليوم يعود الحزب لنفس الأسلوب، فقد عمد مدير الحزب في السنوات الأخيرة أمام تفاقم المعارضة وفي خضم الصراع على خلافة بورقيبة، إلى تكوين ميليشيا جديدة من المجرمين المنحرفين والعاطلين عن العمل والطامعين في كسب سريع رخيص الثمن، دربهم على فنون العنف وهيأهم لإخماد كل صوت حر في البلاد وكان دورهم خلال الأحداث الأخيرة بارزا في الهجوم على مراكز الاتحاد ونهبهم لواجهات المتاجر والاعتداء على الأشخاص والمؤسسات العمومية ونسبة كل ذلك إلى الاتحاد العام التونسي للشغل كتبرير للإجهاز عليه إثر حملة إعلامية واسعة النطاق ضده من طرف القيادة المتزمتة للحزب من خلال التصعيد الإعلامي والإرهاب والطمع في شعب الحزب فأمطرت سيلا من برقيات النفاق والكذب كلها هجوم وتشهير بالاتحاد مطالبة بحل قيادته ومحاكمتها ونعتها بالعمالة. كيف لا وقد أفلت الاتحاد من عبادة الصنم واختار حريته واستقلاله مما جعله الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الأحرار في هذه البلاد فخنقه كفيل بوأد صوت الحرية المنطلق جبارا عاتيا حتى ولو كان ذلك بإعلان حالة الطوارئ والتمهيد لقيام حكم عسكري. فالجيش وقد شعر أن النظام مدين له هل سيقتتع بدور الحارس الأمين؟ وما درى هؤلاء أن انتصاب الجيش في الشوارع إعلان صريح بأن الحزب قد انتهى والصنم قد تحطم؟
ما هو الهدف من كل ذلك؟ إنه تثبيت الصنم المتداعي والقيام على حراسته للتمعش منه والتسلط على الشعب باسمه وذلك باجتثاث كل محاولة للانتقال بالأمة من مرحلة الصنم إلى مرحلة الفكرة ومن مرحلة الاستغلال والظلم إلى مرحلة العدالة الاجتماعية ومن حالة الضياع إلى حالة الوعي بالذات.
ولأجل ذلك فالطلبة المسلمون من منطلق مصير الأمة وذاتها العميقة:
- يدينون أسلوب العنف بكل أشكاله وأيا كان القائم به وينددون بما حصل على يد الطغاة وميليشيا الحزب والعناصر اليسارية المتطرفة مما نسب إلى قيادة الاتحاد وهي منها براء ذلك أن هذا الأسلوب البدائي أثبت عقمه في علاج المشاكل فضلا عن كونه يتصادم مع نفسية الأمة وثقافتها الإسلامية.
- يحملون قيادة الحزب المتطرفة التي تحركها الأطماع والأحقاد النصيب الأول مما حصل كنتيجة لتجاهل مطالب الأمة في الحرية والعدالة الاجتماعية واحترام الذاتية.
- يرفضون بكل شدة الأسلوب العسكري في إدارة البلاد ويطالبون بوضع حد لتدخل الجيش في الحياة السياسية حتى يبرهن هذا الشعب على أنه مؤلف من رجال يقادون بالحجة والإقناع لا بالبارود والعصا.
- ينددون بحملة التضليل التي يقدم عليها النظام ضد الاتحاد ويعتبرون النيل من استقلال هذه المنظمة والمس بقيادتها انتهاكا صارخا للحريات التي منحها الدستور ومبادئ حقوق الإنسان المتضمنة في الشريعة الإسلامية.
- يدعون كل الأطراف والاتجاهات الوطنية إثر عودة الجيش إلى ثكناته إلى إجراء حوار على منابر حرة وندوات متلفزة ليتمكن الشعب من الاطلاع على رأي كل الأطراف حول القضايا الأساسية في إطار الاحترام لتبادل الآراء وتمكين كل الفئات من حق التعبير والتجمع.
- يدعون كل الأطراف الاجتماعية والقوى السياسية الوطنية إلى تكوين جبهة واحدة للوقوف في وجه كل من يرفض الحوار ويستبد بالرأي ويرفض حق غيره في ما يتمتع به من حقوق: ذلك أن الاستبداد والتزمت يمثلان الخطر الحقيقي على مصير الأمة وكيانها وحريا بكل أبناء الوطن المخلصين أن يكونوا على قلب رجل واحد حتى يعلو صوت الحق والحرية والعدالة.
"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"
الطلبة المسلمون