منذ ما يزيد عن الأسبوعين تصاعَدت حدَة التوتر في البلاد، وكانت شوارع العاصمة تونس والجامعات والمعاهد الثانوية مسرحا له. ففي شوارع العاصمة ولثلاث أيام على التوالي الأحد والإثنين والثلاثاء (5 ـ 6 ـ7 /05 /91) وقعت مظاهرات متعددة في مواقع متعددة وفي وقت واحد رافعة شعارات مندِدة بالنظام وبخنق الحريات على إثر عمليات المداهمات والمطاردات والإعتقالات والتعذيب الذي تلاقيه حركة النهضة الإسلامية وأنصارها منذ ما يزيد عن العشرة أشهر بنسب متفاوتة في التصعيد، ولكن بمستوى ثابت من الاستهداف وأرادة المحاصرة والإقصاء والعزل لخصم سياسي، عجزت السلطة على التعامل معه بالاسلوب المدني القائم على اعتباره طرفا حقيقيا في البلاد، وعنصرا فاعلا في المنتظم السياسي الذي يسوده، فلجأت إلى سلك سياسة العصا الغليظة معه، ودفعه إلى الدفاع عن نفسه بالأسلوب المدني ولكن في مستواه الشعبي، بعد أن ظلَ لسنوات يعرض نفسه على القانون ويقدِم التنازلات تلو التنازلات من أجل أن يكون قياسه على أساسه،وهو الذي فصَل ليكون أشبه شئ بسرير القاضي اليوناني .
ورغم أنَ حركة النهضة قد قدَمت نفسها حركة إسلامية معتدلة تدعو الجميع إلى حوار وطني بناء ومساهمة جماعية فاعلة، وظلَت تكرِر في كل مرة أنها ليست ناطقا رسميا في البلاد باسم الإسلام وأنها لا تنزع الصفة الإسلامية عن أحد ولا تدَعي احتكارها،وإنما تنبذ العنف وترفض ممارسته لا بالنسبة لنفسها ولا بالنسبة للسلطة ولا أي كان، وأنها كانت منذ انبعاثها ضحية عنف السلطة وإرهابها . رغم كل ذلك فقد كانت تواجه بما يستوي والمثل المعروف "لو خرجت من جلدك ما عرفتك ".
وأمام انسداد باب القانون امامها باستمرار، وفشل المحاولات السلمية في استفتاء الشعب بتزوير الإنتخابات التشريعية، وإقصاء كل رأي مخالف، ولجوء السلطة والحزب الذي يقودها إلى سياسة استئصالية للحركة أسمتها بسياسة "تجفيف المنابع " وكشفت عنها الصحف المحلية في تونس وخارجها، لجأت الحركة إلى الشعب وإلى الرأي العام المحلي والعالمي تعرض عليه مظلمتها، وتدعوه إلى إنصافها والوقوف معها في معركة ظاهرها تصفية حركة سياسية وباطنها مواجهة الشعب والمجتمع بأكمله من خلال تصفية طلائعه وقياداته الفعلية والحقيقية .
والسلطة التي لم ترض عن طرف سياسي على حسب قانونها، لا يمكن بالطبع أن تقبله وهو يدافع عن نفسه وعن الشعب. فكانت نتائج سياسته كالتالي: حوالي 2000 معتقل و500 في حالة فرار وما يزيد عن 15 شهيدا برصاص البوليس وتحت التعذيب كان آخرهم الثلاثة الذين سقطوا برصاص البوليس في الساحة الجامعية يوم أمس الإربعاء 8 ـ 5 ـ 91. ويروج حول الموظف بشركة السكك الحديدية سمير الحناشي والبالغ من العمر 30 سنة، والذي كان من ضمن مجموعة الإنقاذ الوطني التي هبَت لإنقاذ تونس من حكم بورقيبة، والتي عدلت عن عملها لماَ حدث 7/11/87 بقيادة بن علي ، هذا الشاب لقي حتفه ولبَى داعي ربَه إثر عملية التعذيب الوحشية التي تعرَض لها في محلاَت الداخلية .
أمَا الجامعات والمعاهد فقد كانت - وكما كانت من قبل - مواقع الرد الشبابي على هذا الإعتداء على حياة المجتمع وكرامته، وطلائع الفداء وأمل الشعب في الغد الأفضل. وتلك هي مناقب الجامعة التونسية منذ كانت في عهد الإستعمار وفي فضائها الزيتوني، صوتا للشعب الذي لا يسكت ورد فعله المباشر الذي لا يتأخر. وهكذا فقد كان الطلبة أول الشهداء في كل معارك التحرر وفي كل الإنتفاضات، يستسهلهم الجهاز البوليسي بصدورهم العارية وأياديهم الفارغة، ويصب عليهم جام غضبه ويعرض عليهم عضلاته المفتولة، وهي التي أصابها الإرتخاء وشُلَت يوم كانت تونس مسرحا لجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، حيث استهدفت في عقر دارنا وبين ظهرانينا رموز الثورة الفلسطينية وقادتها الأشاوس.
رفضت الجامعة أيضا وانتفضت لأنَ النظام أقدم على تعليق نشاط منظمتها الطلابية الإتحاد العام التونسي للطلبة، الذي بنوه بإرادتهم الحرة وبرغم أنف بورقيبة وأجهزته القمعية، وصمد وصابر في وضع اللاقانونية بفعل شرعيته الواقعية والجماهيرية، إلى أن أذعنت السلطة لإرادة الطلبة واعترفت به كيانا قانونيا. ولكنها لما كانت ذات طبيعة متأصلة في العنف ومبنية على منطق الإقصاء فقد عادت لطبيعتها وحجبت عن الإتحاد اعتماده القانوني ناسية أن ذلك إنما كان تاليا لوجوده الشرعي الواقعي والجماهيري. ولأن ذلك كذلك فقد حدث ما حدث منذ أعلن الإتحاد عن دخوله في إضراب متواصل إلى نهاية الأسبوع (من يوم 7/5/91 إلى يوم 11/5/91 )، فقد كانت الإستجابة التلقائية والتفاعل المناسب. ولكن جهاز البوليس وتطبيقا لتعليمات الحكومة بالردِ بالعنف بعد التحذير الذي صدر في البلاغ الرئاسي قام بفعلته الدنيئة الخسيسة وأقدم على إطلاق الرصاص على الطلبة وأردى من بينهم 3 شهداء و4 هم الآن في وضع الإنعاش إلى جانب مئات المعتقلين.
وبذلك يكون قد أعلن بنفسه حالة الإنفجار وأقدم على تنفيذها، فعليه وحده المسؤولية ووزر المرحلة وتبعاتها. أمَا الطلبة .... أما الشعب فإنه لا يخشى أن تسقط الأرواح الزكية الطاهرة، وأن تسيل دماء الأحرار، لأن ذلك شرط النصر والحرية والكرامة .
"انَ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب" صدق الله العظيم
حـــــــــــــامد النجار
تونس
تاريخ أول نشر 9\5\1991