لمّا دنا الأجل كانت الروح، وهي ترتّب رحيلها، تُلقي آخر نظرات عطفِها على جسد سكنته ثنيتن وستّين سنة هي رصيد يحيى من حياة اختار أن يحياها كما يشاء ليتركها كما أراد.
ولمّا أن جاء أوان المغادرة انسلّت الروح من الجسد المعاند ليزولَ عنه آخر ما يلقى من ألمه.. تركت الروح الألوفة بيتها وصعدت في معارجها المعَدّةِ لها، فصار يحيى المفارِق ينظر إلى يحيى المفارَق ويرقب نبضَ آخر حلقة من مسلسلة الخداع الاستراتيجيّ الذي جعله البطل له نهجًا واّخذ منه وهْجًا.. واجتمعت الأزمنة في المعراج ورأى صاحبه كيف يغرق آخر اختلال أصاب الأرض ببعوض البشر في مياهه الغامرة.
دخلوا على الجسد بعد أن انسلّت منه الروح في خدر لذيذ لا يعرف لذّته غيرُ من اصطفته الشهادة لها ليكون من أئمّتها. أقبلوا على الجسد، بعد إماطة اللثام عنه، يفتّشون فيه عن يحيى الذي فاجأهم بعد أن أرهقهم فلم يجدوا غير جثمان عليه ارتسمت آخر ملامح البطولة في أرض البشر.. الجثمان سبقهم فأودع الروح آخر أسرار يحيى همس بها إليها ففهمتها وارتقت إلى السماء بها معها.
تركهم وصعد.. ترك لهم إمضاءه بدمائه..
يحيى الآن يصعد.. يراقب من عليائه يحيى الذي كان طوال عمره له سكنا.. قد اجتمع عليه مثلُ بعوض.. ألقى آخر نظرة هي مزيج من شفقة وسخرية.
اقتحموا الجسد/ السكن بعد أن ارتفع ساكنه.. وما قتلوه ولكن شُبّه لهم كما شُبّه لهم من قبله عيسى بن مريم.. ظنّوا أنّهم قتلوه وما فعلوا.. أقبلوا على الجثمان متأخّرين كما تأخّروا عن فجره يومَ السابع من شهر أكتوبر قبل عام. سبقهم إلى الفجر ولم يسبقوا هم إلى غير القتل.. قتل العاجز ينتقم.. هم بارعون في القتل براعته هو في البطولة والفداء.. مثل عيسى سواء بسواء.. السماء تلاعبهم.. أودعت فيهم خلاصة ما في الأرض من شرّ.. هم قتلة ولكنّ قضاء الله بالاصطفاء يسبق قتلهم.. مخدوعون هم ويظنّون، من صَلفهم، أنّهم هم الخادعون.
في الطريق لقي يحيى عيسى فحضنه ومسح عليه والتقط من دمه ما تعطّر به. اختلط الدم بالدم.. وتوغّل يحيى في الصعود... يحيط به الجمال مكَلَّلًا بالجلال.
يعلم أنّه أدّى الذي عليه أداؤه،
ويعلم أنّه سبقهم ولم يسبقوه؟
وكان قدرُه سابقًا قدَرَهم.
ولو استطاعوا لأسروه ولصنعوا من أسره بطولة لهم. ولكن لأنّه داهية حتّى الرمق الأخير فقد استولى على البطولة كلّها، كذّبهم موتُه بما قالوه عنه في حياته.. سلبهم كلّ قوّتهم ولم يُبق لهم غير الجريمة والجريمةُ هي كلّ ما يستطيعون مدجَّجين بأسلحة الهبات ليحرسوا استيطانًا جاء إلى الأمّة وخرج منها ببطولات أبطال مثل عمر المختار...
جاء يَحيى يُحيي بطولة المختار في الوطن ويقتلع نباتا نكدا اجتمعت له دول الغرب المجرم قاطبة لترميَ به أمّة عاد بمكّة حكّامُها إلى ما قبل زمان فتحها لتدوس ترابَها المقدّسَ أحذيةُ نجاسات الأرض الباقية.. تحت الأحذية النجسة حكّام جاؤوا من سلالة القتلة توضّؤوا بدمائنا ليأكلوا دنياهم بديننا. يأكلون من زاد يحيى ويلعنونه كأنّ الله في صفّهم يفتلون منه حبال أعمارهم الطويلة التي اتّخذوا منها مشانق للشعوب. الشعوب لا تكفر بإله يلبس الحكّام منه قمصانا لهم.. لأنّها تأمل في الخلاص وإن تأجّل الخلاصُ.. الشعوب تعلم أنّ الله لها لا لحكّامها.. الحكّام ليس أكثر من لصوص سرقوا اللهَ مثلما سرقوا الغذاء وسرقوا الأمان.. ومكتوب على الشعوب أن تسترجع جميع حقوقها من كلّ اللصوص.
أشرعت السماء أبوابها تستقبل يحيى المرتقي.. وجوه كثيرة في انتظاره، يعرفها كلّها بلا ترجمان.. واحة وارفة تحيط به وابتسامات تسيل بأسماء المستقبلين ووجوه يألفها.. عليها أسماؤها من عند سمائها.
وجد قريبا منه أبا العبد إسماعيل هنيّة برفقته الشيخ صالح العاروري عليهما أثر الشوق من حديث التلاقي، غمراه حَضنًا وقبّلا غرّته بحَرّ شوقهما.. وأخذاه في جولة بين الدرجات.. ركب الثلاثة غمامة من الأشواق.. فإذا الحركة في قلب السكون.
- ياه...
سَميُّه يحيى عيّاش وعليه كوفيته لم تغادر عنقه.. تضاعف الاسم.. يحيى ويحيى.. صاروا أربعة.. إسماعيل والعاروري واليحييان.. جادت عليهم الغيمة بهدهدة واتّسعت دوائر الأحداق...
أطلّ عليهم من شرفته عبد العزيز الرنتيسي.. حضن آخر لقيه يحيى ولم يخطُ غير بعض الخطى، وما كانت خُطى إنّما هي موازين بشَر...
نظر يحيى حوله فألفى كثيرا من الشهداء يعرفهم: الجمالان سليم ومنصور. صلاح شحادة. إسماعيل أبو شنب. نزار ريّان. الشيخ خليل. سعيد صيام. محمود المبحوح. أحمد الجعبريّ... باقة من الشهداء هم مفاخر أهل السماء...
دخلوا على إمامهم وقدوتهم ودليلهم من الأرض إلى السماء الشيخ أحمد يس.. لم يكن على كرسيّه.. استقبلهم واقفا في أبهى صورة بأجلّ لباس.. ابتسامته من لطافتها مثل صبح مَطير...
قال الشيخ من داخل إشراقة على وجهه:
- أهلا بسيّد البطولة والفداء.
وحضنه كما حضنه السابقون.. فوجد من حضنه مثل هدهدة أمّه حين كان طفلا لا يرى ألذّ منها.
في السماء معايير أُخَرُ.. تجتمع بها الأزمنة في الأمكنة في النزلاء.. فما يخطر يأتي قبل أن يرتدّ طرفٌ.. وللشهداء حظوة اللّا حد.
كان صلاح الدين الأيّوبي في حضرة الياسين. لمّا رآه يحيى انفرجت أساريره وخرّ لله ساجدا.. تلك سجدة أولى.. رأى قبّة الصخرة فيها وهو يسجدها.. ورأى المحراب.. ولم يكن عرفه من قبل...
ولم يخرجه من ذهوله غير ذهول أشدّ.. عمر المختار يخرج من غرفة بالقصر يمشي كما لم يتخيّله مصطفى العقّاد... وجاء إلى استقباله شهداء بلا عدّ.
جلس الجميع أمام مشهد مباشر بلا شاشة ناقلة.. غزّة في وضعها الحاليّ.. البطولة لا تزال في الأرض تدور والنصر يغزل ثوبه أبطال ينتظرون نصيبهم من الشهادة.. يغزلون من دمائهم أسباب انتصارهم... التفت الجميع إلى الجميع في لحظة خرج فيها عليهم
حمزة بن بعد المطّلب...
أقبل عليهم حمزة مرحّبا بالجميع... ثمّ أفرد يحيى بنظرة باسمة :
- أهلا بسيّد الشهداء، قال حمزة.
- بل حمزة سيّد الشهداء، أجاب يحيى.
ردّ حمزة:
- حمزة قتلته قريش، أمّا أنت، يا يحيى، فقد اجتمع عليك شرّ الأرض فقتلك، فأين أنا منك؟ إنّما السيادة صارت لك، واللقب في عهدتك.. والشاهدة العصا.. تلك عصاك لا عصاي يا يحيى.
تأتيهم عصا يحيى تلك التي كانت آخر حركة له في الحياة يهشّ بها على طائرة الأعداء.. تسعى بينهم.. غمرت الجميعَ ابتسامة واحدة سرت في كيان يحيى كأنّ الزمان اجتمع في نبض قلبه...
أشارت العصا إشارتها:
الحسنيان معًا.. النصر والشهادة معقودان،
لاشكّ عليهما.
وعد السماء تصنعه الأرض،
وخير من بقي من بشر..
تكتب سيرتَه العصا،
تلك آيات العصا،
ميراثُك من موسى،
مآربُه الأخرى...
يا يحيى.
قال حمزة.
تاريخ أول نشر 2024/10/18