تناقلت الأخبار منذ أسبوع وفاة المنشد السوري أبو مازن في مصر ... وقد اختفى عن الأسماع والأنظار منذ بداية الثمانينات ... و تناقل الناس روايات عن موته في سجون حافظ ... لكن الحقيقة أنه نزل مصر واختفى في دروبها، وانقطع انقطاعا كاملا عن عالم الانشاد، حتى أن أصدقاءه وجيرانه وأهل مسجده الذي يؤمهم فيه في التراويح فوجؤوا لما علموا حقيقته وحقيقة تاريخه.
لعب أبو مازن بصوته الشجي الهادئ العميق، وبألحانه المؤثرة، وبانتقاء شعر إنشاده الذي تركز حول ملاحم الصبر والجهاد والسجون والاستشهاد، دورا لا يقل تأثيرا عن مئات الكتب التي شكلت وعي شباب الصحوة ....
وبقدر ما كان الشباب يتلهف على كتب وشرائط الشيوخ للمعرفة وبناء الوعي، بقدر ما كان يتلهف على ما يبني الوجدان والمشاعر، والاستجابة لحاجة الانسان الطبيعية الى ما يملأ شغاف القلوب ويعمرها بما يشحن ويعبئ، و يشعل جذوة الشوق حينا ويطفئ لهب التوتر والتمرد احيانا ....
مثل المنشدون استجابة متطورة لتحديات البديل الفني بعد المديح الصوفي ... كانت متناسبة مع الرغبة الكبيرة في التميز عن الفن كما يمارس في المجتمع .... ذلك التميز الذي يجد عند شباب الصحوة ما يحقق حاجة مزدوجة ... حاجة للفن وحاجة لرفض ما يمارس من الفن .... شيئ من طبيعة الدعوات الجديدة التي تلد برغبة صارخة في إدانة الموجود، وسعي صارم لعدم التشبه به .... لكن ذلك النشيد حفر في اعماق الشباب، وبنى توجهاتهم وشحنها بكل طاقات العزة والتميز وحلم النصر .....
تميز أبو مازن أكثر من غيره في انتقاء اناشيده من شعر شعراء الدعوة المصريين، وخاصة شعر السجون والتعذيب والصمود و الشهادة .... أناشيد مؤثرة بكلماتها وصوت نقي وحنون كأنه يأتيك من داخل الزنازين، ينقل لك الآهات والتعذيب والشهيد وهو معلق على اعواد المشانق ....
"رسالة في ليلة التنفيذ" الشهيرة لهاشم الرفاعي .... أم الشهيد تهدهد طفلها .... ملحمة الدعوة .... "أخي أنت حر" لسيد قطب... الحرة التي تداس ....
لا زلت أذكر تلك الأناشيد التي كانت سامر ليلي الشتوي في قريتي وشادي الضحوات والعشايا .... كانت تحملك على جناح من الشوق لمجالسة أولائك المجاهدين الصابرين ... وتوطن نفسك على مصير لك لا يجب أن يختلف على مصير أولائك الذين سبقوك، شهيدا أو حيا يواصل طريق الجهاد ولا شيئ غير الجهاد ....
كانت تلك مرحلة من مراحل الصحوة عمقتها أحداث الثورة السورية .... وبقدر ما حصلت تطورات مهمة في الوعي وفي الرؤى وفي الواقع ... وتغيرت الأفهام والبرامج والخطط ... وتحول "الفن" بتحول الصحوة من ظاهرة غريبة على هامش المجتمع إلى تيار يتمدد شيئا فشيئا في مفاصله .... وبين رغبة الصحوة أن تغوص في المجتمع أكثر ورغبة المجتمع في أن يكسر عن الصحوة نشازها ويسعى لدمجها في حركة أخذ وعطاء معقدة .... بين كل ذلك تحولت "الاناشيد" ومنشدوها إلى إرث يحن إليه من نشأوا عليه يستمعون إليه أحيانا ... يحي أشواق الشباب .... نشيد يحتفظ بنقائه ويؤكد حقائق عاشوها بل لا زالوا يعايشونها، حتى وان بدا في بعضه غير واقعي، واليه تنسب المشاركة في طفرة الجنوح التي حملت شبابا على ممارسات أتعبتهم وأتعبت صحوتهم ومجتمعهم ....
رحم الله أبو مازن وجازاه على ما قدم خير الجزاء ....
تاريخ أول نشر 21\3\2023