بالاستسلام إلى نجاح حكام السوء في ترحيل عبد الرحمن القرضاوي بتواطئ مفضوح ومخز من حكومة لبنان وعلى رأسها نجيب ميقاتي، يضع أردغان نفسه مرة أخرى أمام امتحان عسير من السكوت (التواطئ) عن كرامة ودم إنسان استجار به وقبل هو إجارته ومنحه جنسية البلد التي يحكمها.
سيقول الكثيرون أن علاقات الدول تبنى على المصالح أولا.. وهذا تبرير فاجر. نعم تراعى المصالح ولا شك، ولكنه يوازن في مراعاتها بينها وبين المفاسد،ولا يمكن بحال أن يبرر إهدار المبادئ. لأن المبادئ في حد ذاتها مصالح، وإهدارها إهدار لمصالح عليا لا تثمر المصالح الدنيا كعلاقات ومنافع دنيوية إلا بها. لا تثمر في الدنيا فـ"إن الله لا يصلح عمل المفسدين"، كما لا تثمر في الآخرة لأنها بيع لآجل باق ومثمر بعاجل فان وفاسد، و كما قال البوصيري:
وَمَن يَبِع آجِلًا منهُ بِعاجِلِهِ يَبِنَ لهُ الغَبنُ في بَيعٍ وَفي سَلَمِ
لم يكن يتوقع أحد أن تمرغ أنف تركيا وأنف أردغان في التراب من طرف مبس، ويرضى بإهراق دم امرئ مسلم وتقطيعه جسده وتذويبه في الحامض على أرضه في صلف وعتو لم يحصل مثله.
ومنذ حصل ما حصل، وأنا أقلب الأمر في نفسي كلما خطر ببالي، وأبحث عن تبرير له ، لكنني لم أجد ما يقنعني ويريح نفسي. وللأمانة فإنني أحاول إقناعها، بأن أردغان لن ينام على ضيم، وأنه إنما يتحين الفرصة ليثأر لجمال خاشقجي ولكبرياء تركيا ولكرامته الشخصية! وهذا يمكن أن يحدث بدون شك. لا أدري هل كان جمال مجرد زائر أم أنه كان يحتفظ ببطاقة إقامة، لكنه حتى ولو كان مجرد زائر، فهو في حماية الدولة التركية بمجرد قبولها دخوله إليها، والمفروض أن تكون مؤتمنة على دمه وماله وعرضه. وكما أشرت، بقطع النظر عن الشخص فما حدث يعد إهانة وجريمة في حق الدولة التركية وفي حق أردغان نفسه.
أما مع عبد الرحمن القرضاوي فالأمر أشنع. فالرجل يحمل جنسية تركيا. ومهما كانت نوعية الجنسية فقد أصبح تركيا. لا بل لو أنها جنسية استثنائية منحها له أردغان كما يسمح بذلك القانون التركي فالخطب أعظم والمسؤولية أشد. إذ أصبح التعدي مباشر على أردغان نفسه وعلى هيبته ومكانته بل وكرامته. فضلا عن أن عبد الرحمن القرضاوي لم يتم ترحيله لبلده الأصل، كما لم يتم ترحيله بناء على جناية مرتكبة وعقوبة مقدرة بحكم محكمة، وإنما على مجرد دعوى انتهاك قانون بلد آخر لم يمارس على أرضه ما يدعى عليه.
واضح من مجريات العملية، أن قرار الترحيل كان سياسيا، واتخذ من طرف مجلس الوزراء برئاسة نجيب ميقاتي، وهو ما يجعل عدم تدخل أردغان شخصيا في الأمر إن حصل، تخل عن إنسان استجار به وبتركيا، ووثق في عدالتها ونصرتها، وتخلى وتخلت عنه، وأسلمت جسده وكرامته وربما رقبته لظالم تشهد عليه كل المؤسسات الحقوقية في العالم.
كنت أسمع دائما من الأتراك ومن أردغان نفسه، أن تركيا كعبة المظلوم. ولكننا نرى الآن حالة من حالات الخزي، حيث ترضى تركيا وأردغان أن تكون كرامتها المتمثلة في عبد الرحمن القرضاوي ميدان بزنس عصابات الخراب والفساد في لبنان، جعلت من ترحيل عبد الرحمن القرضاوي شكل من أشكال جريمة "الإتجار بالبشر" على قول الإعلامي المصري وائل قنديل.
وكما نوه الكثيرون، لو كان ما حدث لعبد الرحمن القرضاوي، وهو يحمل جنسية أي بلد أوروبي، فلن تسلمه لدولة لا يحمل جنسيتها، ولم يرتكب جرما على أرضها. ولن تقبل مطلقا أن يرحل مواطنها من دولة إلى دولة أخرى، مهما كان عدم اتفاقها بل وحتى محاربتها لما يعتقده ذلك الشخص.
أين سيهرب أردغان من كل ذلك؟ وبماذا سيبرر ما فعل؟
الحقيقة أن الأتراك قد أظهروا تمييزا عمليا وفيه انتهاك لدستورهم وقانونهم. فقد حدث منذ أشهر أن سكتوا على تسليم مواطن إماراتي يحمل جنسيتهم من طرف السلطات الأردنية بطريقة مشابهة قانونيا لحالة عبد الرحمن الشرقاوي.
انتظرت أن يكون تدخل أردغان سريعا وحاسما لصالح عبد الرحمن القرضاوي المظلوم بدون شك ولا ريب، والمواطن التركي بكل الحقوق التي يكفلها له الدستور والقانون التركي، وأيضا وفاء لأبيه الشيخ يوسف القرضاوي الذي طالما نافح عن تركيا وأردغان، ويعده أردغان شيخا له، وقد خصه دائما بكل الحفاوة والترحاب.
دافعنا كثيرا عن تركيا، وأشدنا بكل خطوة إيجابية تخطوها، ولكننا أبدا لن نمالئ في الحق أحدا، ولن نسكت على الظلم، ولا على المستكينين للظلم، أو الشركاء فيه. فعبد الرحمن القرضاوي إن قدر الله أن يلقى ربه على أيدي زبانية مبز، أو حتى مجرد تعذيبه البدني والنفسي، أو تسليمه لمصر ، فأردغان وتركيا شريكان في ذلك، وليس فقط لبنان العصابات الطائفية والمالية.
تاريخ أول نشر 2025/1/9