كتب ابن خلدون في آخر مقدمته في آواخر القرن الرابع عشر الميلادي : "كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها»، وهو إعلان مبكر لانحدار الحضارة الإسلامية. لكن انحدارها ذاك تطلب ستة قرون كاملة، عندما انهارت الخلافة العثمانية، وتقطعت أواصلها إلى دويلات، اقتسمها الغرب بين دوله الكبرى، بين استعمار مباشر وغير مباشر، تم فيهما نهب خيراتها، وتقطيع أرحامها، واختطاف نخبها وصناعتها على عينه.
لكن مالك بنبي اعتبر الانحدار سابق على ذلك العهد، حيث أرخ له بما أٍسماه "عصر ما بعد الموحدين". فنهاية دولة الموحدين كانت إيذانا بانحدار حضاري للأمة، لم تفلح الخلافة العثمانية في كبح جماحه رغم قوتها العسكرية، التي حفظت كيان الأمة السياسي، واستمرت سيادتها على العالم بضعة قرون.
ما عناه مالك بنبي كان صحيحا ودقيقا، فعالم "الفكرة" هو أول ما يدب إليه الضعف والخلل. وعالم الفكرة هو عالم الروح الدافقة والدافعة للخلق والإبداع والتجديد، فإذا أصابها الخمول واعتراها القعود، انسحبت على عالم العلاقات والمادة ارتخاء، فتتوقف الحركة أو تضعف، وتنصرف الجهود في غير طريق الكد والجد والخلق والإبداع الذي يحتاج "طاقة" روحية أكبر تولد الهمم والعزائم التي تصنع العظائم.
ولأن "دفقة" البعث الحضاري المحمدي كانت كبيرة، فقد استمرت طاقتها نافذة وفاعلة لا يلحقها الموات، بل تتجدد من حين لآخر كلما استشعر المسلمون الخطر على كيانهم الروحي، وذلك ما قامت به حركات الإحياء والتجديد على طول تلك القرون الستة، وخاصة في القرنين اللذين سبقا قرن سقوط الخلافة.
ولأن الله قد جعل قانونا لعمارة الأرض يسود به الأقرب إلى إنفاذه أو إلى مسايرته حتى ولو كان كافرا ملحدا، فقد ساد على الأرض الغرب بما وصل إليه من قدرة على عمارة الأرض فاق بها قدرة المسلمين الذين نكصوا وانتكسوا.
لكن الأمة لم ترض بالهزيمة يوما، ولا قبلت الإستخذاء يوما، وإن خضت لقوة غازيها كرها فإنها لم تلق السلاح، ولم تتوقف يوما عن رد كيد عدوها ومقاومته بكل السبل الممكنة، بما فيها "المقاومة السلبية" حين تعوزها الحيلة والامكانيات عن المقاومة المادية أو المباشرة.
يمكن لك أن تقول أن القرن العشرين كان قرن الاستعمار ولكنك أبدا لن تقول أنه كان قرن الاستسلام.
لم ينقض يوم من أيام القرن لم تكن فيه الأمة تمارس "جهادها". وإذا خمدت شعلة الجهاد في مكان، فإنها تشتعل في مكان آخر. وإذا توقفت قعقعة السيوف ترفع "أسنة" الأقلام.
كانت الأمة تحقيقا عمليا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة".
لم تسقط راية الجهاد يوما. فكل أنواع الجهاد ظلت راياتها مرفوعة.
صبغيات المسلمين كانت تجاهد من خلال صمودها أمام كل محاولات المسخ والتفسيخ، الأسرة المسلمة تجاهد رغم كل حملات التحطيم المادي والبيولوجي والثقافي والنفسي. المسلم بهويته الثقافية يجاهد حتى وإن ألحد وتعلمن وتمسح وتنكر لكل شيئ فيه، وإن لم يستيقظ لما فيه يوما كما حصل للكثيرين، فإنه سيوقظ من حوله ممن يرى فيه ما لا يرى هو في نفسه. فكم أيقظ المسلمون من خلال سمتهم العادي وسلوكهم الطبيعي الدنيوي قلوبا غلفا. وكم أفزع مجرد حضورهم وتكاثرهم خصومهم.
تستطيع أن تدرك مدى قوة الأمة من خلال ما يراها فيه أعداؤها، من خلال ما يكتبون عنها، ومن خلال ما يخططونه لها بالليل والنهار، ومن خلال ما ينفقونه في سبيل إخضاعها وسعيهم لوأد كل مقومات النهوض فيها.
تستطيع أن تدرك قوة أمتنا من خلال ما ينذر به أعداؤها، وما يعترف به أعداؤها من عناصر قوتها التي لا تقهر، ومع ذلك ينفذون البرامج الجبارة من أجل ذلك، لأنهم لا يرون في قيامها إلا إعلان هزيمتهم الساحقة بل موتهم.
لكن كما ذكرت فوراثة الأرض والسيادة عليها له موازين صارمة وقوانين لا تحابي أحدا. فلن يرث الأرض المؤمنون لإيمانهم، وإنما يرثها الصالح والقادر على عمارتها. وهي موازين دقيقة لا تميل الكفة فيها بمجرد التحلي والتمني، ولا بالإيمان القلبي الذي لا يورث طاقة خلاقة تعمر الأرض وتحقق الاستخلاف الأوفى. فالإستخلاف لا ينتقل من إنسان إلى إنسان، ولا من قوة إلى قوة إلا بتحقيق التفوق في تصريف طاقة الانسان لما ينتج وينفع. وإنما تتغير كفة ميزان الاستخلاف بالتراكم الذي يثقل في كفة ليخف في الكفة الأخرى.
وهذا في منظور التغيير الاجتماعي يأخذ زمنا ليس باليسير، لأن المجتمع الذي هو عبارة عن بنيات معقدة تحتاج عملية التغيير فيها زمنا.
لا يكفي تغيير ما على الأرض دون أن يتغير ما بباطنها من بنيات وعلاقات.
هكذا هو المشهد من المنظور الحضاري، يبدو طبيعيا من حيث نتائجه، بل مبشرا من حيث أنه لم يكد ينقضي قرن من الاستعمار، إلا وبيارق النصر بدأت تلوح في الأفق. ذلك الأفق الذي مهما بدا بعيدا فإنه لم يعد غيبا ...
ولمن أعياهم السير أقول : جددوا النية وغذوا السير، فما بعد غزة والطوفان ليس كما قبلهما، وياسعد من قضى فيها مجاهدا في أي ساح من ساح الجهاد ...
تاريخ أول نشر 2025/9/12