search

أنا والشعر ...

نشأت في بيت يعشق الشعر الشعبي ... وتعد الوالدة الزهرة بن أحمد بن بلقاسم بن مصباح - أمد الله في أنفاسها - مكتبة بحالها، حيث تحفظ شعر نفزاوة وواد سوف، وكل ما ورد إليهما من خارجهما ... وقد أوتيت حافظة نادرة كالتي قرأنا عنها في الجاهلية، حيث أنها تحفظ من سماع واحد ... تنحدر من أسرة لها في الشعر مكانة، فجدها شاعر فحل من شعراء القرية والجهة وهو المرحوم مصباح بن عبدلله ... وخالها (قرابة من جهة الأم ) خليفة الرطيب من فحول الشعر الذين جاؤوا بعد جيل مصباح بن عبد الله وله جولات مع أحمد البرغوثي ... وبالجملة فالشعر هو بضاعة الحديث ومخزون الحكمة وزينة مجالس الفرح ومضمد الجراح في مجالس العزاء ... وقد كانت عمتها خالتي حليمة بنت بلقاسم بن مصباح وهي في نفس الوقت زوجة عمي إبراهيم يرحمهما الله نسابة وحافظة هي ايضا ... وبقدر ما تغذيت بحليب أمي، تربت ذائقتي على حديثها وترديها الشعر، وأهازيجها في ليالي الشتاء الطويلة ونهارات العمل والكدح الذي لا ينتهي ... كانت سهراتنا كلها متعة بأشعار فحول الجهة ومباراتهم ونقائضهم ... وكان أمتع ما في الجلسات، عندما يتحول الحديث إلى "النقد الأدبي" في الحكم على قصيدة ما أو شاعر ما أو في التفاضل بين شاعر وشاعر ... وكان أهم ما في النقد هو نقد المعنى والقدرة على اختيار اللفظ المناسب واستكشاف "السرقات" أو "التناص" ... وتتحول البراعة من الشاعر إلى "النقاد" ... وقد يحتد النقاش وتستعر المجادلة ... وكل ذلك بين الأم وعمتها أو خالتها أو ابنها أو جارتها ... مجالس تحول الليالي البهم إلى منارات جلال وجمال ... ومن أطرف الأشياء أن الطبيعة المنفتحة للأسرة ولعامة الجهة لا ترى غضاضة في سرد شعر الغزل والحب التي يقولها شعراء كبار وكأنك بحضرة فطاحل الشعر العربي ... يسرد كل ذلك بتلقائية ودون تكلف ولا تحرج ... إلا ما يسمى "الشعر الأخضر" أي الإباحي فإنه لا يقترب مجالسنا ولا يعد عندهم إلا من فساد الذوق ومن تهتك المتهتكين...

تلك البيئة التي نشأت في أحضانها جعلتني أعشق الشعر من طفولتي الأولى، وقد اشتهرت في العائلة بحفظي وترديدي للشعر الذي أحفظه من أمي ومن مجالسنا وأنا لم أبلغ سن التمدرس بعد. حتى إذا ما دخلت المدرسة انضاف للشعر الشعبي الشعر الفصيح الذي بدأ شيئا فشيئا يحتل مكان الشعر الشعبي ... كنت ألتهم كل شعر تصل إليه يدايا من كتاب أو مجلة ... وكنت مغرما بإلقاء الشعر في المرحلة الأولى الثانوية ... وطالما ألقيت قصيدة سيد قطب "أخي أنت حر وراء السدود " ... ولشدة شهرتي بذلك ولاهتمامي بكل ما هو ثقافي، فقد تم اختياري من قبل إدارة معهد دوز أنا والأخ الصديق الذي انقطعت عني أخباره شهاب بن عمر لتمثيل المعهد في مباريات بين المعاهد في إذاعة صفاقس. وكانت المباريات متكونة من أسئلة وأجوبة في الثقافة العامة ومن عمل فردي يتم اختياره بشكل حر من المعهد، فكان بطبيعة الحال اختياري أن ألقي قصيدة. وقد اختار لي أستاذنا المهتم بالنشاط الثقافي سي محمد السويسي قصيدة نزار قباني : "بيروت حبيبتي بيروت محظيتكم" ... لم ينقطع حبي للشعر وان قل اهتمامي به وتتبعي لتطوراته، فبقيت ذائقتي لا تستسيغ الشعر غير الموزون، وبقيت ذائقتي لا يشدها للشعر غير جمال المعنى وقوة الكلمة ونفاذها للعقل والقلب ... ولا أستسيغ الإغراق في الرمز ولا المبالغة في البحث عن الصور الشعرية الناشزة مع احترامي للمتخصصين ... أتابع وأقرأ الشعر من حين لآخر ... وأذكر مرة أنني بصدد الاستماع لأحد الشعراء في أحد البرامج التلفزية (ليس برامج المسابقات) وجدتني أصيح وأنا وحدي في البيت: الله الله ... لم يمت الشعر ! وليس في ذلك عجبا فقد أصاب الشعر ما أصاب الفن وخاصة فن الغناء عندما تحول إلى "ما يطلبه المستمعون" ... لقد نشأنا في جيل يرى كل الفنون وكل الثقافة رسالة ... هي للتغيير وليس للاستجابة لما يطلبه الناس، وإنما للرقي بهم ....

وأشعر أنني مدين لتربيتي الأولى في التعلق بالكلمة وبالمعنى في كل شيئ ... قرآنا أو شعرا أو فنا أو حديثا عابرا ... ويحدث باستمرار أن تهتز مشاعري وأن يغالبني الدمع لكلمة بليغة ... لمعنى بليغ ... لصرخة أعماق ولنفثة صدر ولشفافية روح ... في حالة طرب وخفقان أو في حالة وجع وحرمان ...

استمعت اليوم لقصيدة الشاعر أبوبكر بن غرس الله المرزوقي المشهور باسمه الحركي بن قطنش، وقد كان من المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي، وقد فر إلى ليبيا وكاد يقبض عليه الايطاليون، ولكنه فر منهم وعاد لتونس. وفي العاصمة بقي هناك متخفيا وقال قصيدته التي بقيت تتناقلها الأجيال: "بعد لزهو ليام غرو بي" ... شكرا للأخ الصديق الشاعر الخال عمار الجماعي الذي التقيته أول مرة في قريتنا، وقضينا معا سهرة ماتعة، وقد كان الشعر بطبيعة الحال زينتها، وهو الذي نشر القصيدة مغناة في صفحته على الفيسبوك ... فأوحت لي بما حبرت ...

ولا يمكن أن أختم الحديث دون ذكر أترابي وأبناء جيلي ممن يكبرني سنا، وقد كنا كلنا متعلقين بالشعر ... وأخص بالذكر رفيقي عندما كنا ثاني اثنين في طفولتنا محمد الرطيب، شاعر فحل وابن شاعر خالي الشاذلي رحمه الله، وحفيد الشاعر خليفة الرطيب الذي سبق ذكره، وسي البشير بن منصور الشتوي الشاعر الفصيح والمحدث البليغ وابن خالي علي بن امحمد مخزون الحكمة وشعر الحكمة، وأخي الأكبر علي النجار حافظ وشاعر وصاحب حاسة نقدية وذكاء وقاد، ولولا أنه حرم التمدرس لكان له شأن كبير ... وغيرهم كثير في بيئة تعرف الشعر ويعرفها وتُعرّف به ويٌعرّف بها ....

تاريخ أول نشر 2025/12/13