search

أنا ... ومدرسة الإخوان المسلمين

نتابع هذه الأيام دورة من دورات الهجوم على حركة الإخوان. يبدو أن "فتح دمشق" قد حرك الدوائر المهوسة بالعداء لها، حيث ترى في الفاتحين برغم عدم انتمائهم التنظيمي لحركة الإخوان ثمرة من ثمارها.

أعلن ابتداء - ومن دون ولف ولا دوران - أنني أفتخر أنني تلقيت الجزء الأساسي من تربيتي وتكويني بعد الأسرة والمدرسة الابتدائية في مدرسة الإخوان المسلمين. وأنني تزودت منها، وأنا أكدح مع الكادحين شابا طموحا أوكهلا ساعيا، أبتغي الخير لي ولمن حولي ولوطني وللإنسانية جمعاء.

مدرسة الإخوان المسلمين التي تتلمذت عليها، هي مدرسة الإيمان بالاسلام منهجا للحياة، كل الحياة، هي مدرسة التوحيد الخالص لله بكل أبعاد التوحيد الروحية والعقلية والعملية، هي مدرسة العدل بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هي مدرسة الحرية والتحرر، هي مدرسة الكرامة الانسانية، وهي مدرسة العزة والتحرر من الاستعمار وعلى رأس ذلك تحرير الأقصى وكل فلسطين، كما أنها مدرسة الشهود والنهضة الحضارية.

قد يكون لجذوري الاجتماعية ونشأتي الأولى دور في انجذابي لمدرسة الاخوان، وقد يكون انجذابي نتيجة "رد فعل" مجتمعي ساقني وساق غيري إليها ردا على عمليات الاختراق الثقافي والقيمي لمجتمعاتنا من "الغازي" الغربي. وقد يكون الانجذاب نتيجة رد فعل على سياسات دولة ما بعد الاستقلال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي "ميكانيزمات" اجتماعية متنوعة تتضمنها "الحركية الاجتماعية"، حيث تغلب عليها نزعة المحافظة حينا ونزعة التغيير أحيانا أخرى بحثا عن توازن ما.

والانسان مهما بدا سلبيا تجاه تلك الحركية الاجتماعية يغلب عليه التأثر والتقليد، إلا أنها ليست سلبية مطلقة. ذلك أنه يحاول أن يتعامل بشكل يحقق التوازن النفسي والابتعاد عن التناقض في تفكيره وسلوكه، فيصنع من كل ذلك "مركبا كيميائيا" يبني به شخصيته وتفرده الذي لا مناص له منها كإنسان.

من ذلك مثلا أنني في قمة تأثري بالمدرسة الاخوانية، كان ميلي دائما لروح الوسطية التي تميزت بها فكريا وعمليا، ولم تجذبني بعض أجنحتها الفكرية والسلوكية التي بدا لي فيها ميل عن التوسط المطلوب. خاصة وأن الوسطية في السلوك الإنساني ليست نقطة فيزيائية أو مسافة مضبوطة قياسيا كما تضبط القياسات الموضوعية المادية.

لم ننخرط أو لم نحافظ أنا وأبناء قريتي مثلا على التشدد في التزام السنن أو بعض السلوكات الاجتماعية كالمصافحة أو عدم مشاركة أهلنا حياتهم الطبيعية.

تتلمذت على المدرسة الفكرية للإخوان، ودون أن ألتزم بخط فكري أو تنظيمي أو سياسي لجناح من أجنحتها ... وحركة الإخوان مدارس وليس مدرسة واحدة ... قرأت لأهل الفكر ولأهل التنظيم ولأهل السياسة ولأهل الجهاد ... قرأت للمصريين والسودانيين والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين وللسعوديين والكويتيين وللجزائريين والمغاربة، ولإخوان المهاجر في ديار الغرب وللمدارس التركية والماليزية والباكستانية والأفغانية. وتتبعت التجارب المختلفة في بلدان ومجتمعات في قارات المعمورة الست.

وقرأت أيضا لخصوم الإخوان أو المختلفين معهم من داخل المنظومة الاسلامية مثل حزب التحرير والسلفيين بمدراسهم والصوفية وممثلي الهيئات الرسمية، وكذلك من خارجها من يساريين وليبراليين وقوميين وغيرهم.

وهو للأمانة الطابع العام لأبناء حركة النهضة. وقد كان الانفتاح العام على المدارس جميعا سمة من سماتهم وخاصية من خصائص التكوين والتوجيه المعنوي للحركة برغم انتمائها للمدرسة الإخوانية. وقد شهدت الحركة في منتصف عشريتها الأولى حوارا مبكرا حول حركة الاخوان والعلاقة بها، واحتدم هذا النقاش حتى منتصف الثمانينات، مستصحبا الرؤى التي كانت سائدة ذلك الوقت حول الطبيعة الإصلاحية أو الثورية لتلك الحركة.

وكنت ولا زلت لا أستنكف عن اتباع رأي أو موقف ولو كان نقديا لحركة الإخوان. ولو صدر من ألد خصومهم إذا بدا لي فيه وجه الحق غالبا. لا يمنعني من ذلك ما قد تقتضيه الأعراف التنظيمية أو السياسية، فأنا في حل من ذلك، والوفاء للمدرسة بكل رحابتها أولى عندي من الوفاء للتنظيم أو الحزب.

والإخوان أنفسهم، برغم اجتهادات محدودة، لم يحملوا بعضهم بعضا في مواقعهم القطرية المختلفة، و ومواقفهم العملية المتنوعة، على التقولب في قالب واحد.

وقد وجدت أن مدرسة الإخوان سواء من خلال الملتزمين بقوالبها المتنوعة، أو " المتخرجين منها"، أو " الخارجين عليها"، قد يكون فرقتهم القوالب والأوعية المؤسسية، لكنهم حافظوا على روح الحركة و"عجب ذنبها"، وهو تلك المبادئ التي قامت عليها الحركة ... حتى وهم يتنافسون في ما بينهم، بل ويتصارعون أحيانا في ساحات المجتمع المختلفة.

نشأت الحركة في عهد مؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا على مبادئ سليمة وأصيلة، وإن تطلب الزمن والتجربة تجديد فهمها، أو استكمال بعض بنودها، أو تعديل بعض مناهجها. لكنها كانت كما قال مؤسسها: "روحا يسري في الأمة".

ولأنها اجتهاد بشري في الأخير، فقد امتحنت بكل ما في الاجتهاد البشري من صفات التأثر بالأطر النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية في النظر والعمل. فانتعشت فكرا وممارسة في أجواء الحرية، وانكمشت فكرا وممارسة في أجواء الاستبداد. لكنها حافظت دائما على روح رسالتها.

وحتى إذا جنحت بعض أجنحتها في مكان ما، فإن أجنحتها الأخرى تمارس دور التعديل والتصويب والعودة بها إلى وسطيتها. فيمارس "الخارج" ضغطه على "الداخل"، ويمارس الفكر تأثيره على الممارسة، ويحمي تيارها الاجتماعي/الدعوي الفكرة من محن السياسة، وتمارس السياسة تأثيرها المطلوب أحيانا في خلخلة القوالب الثقافية (الدعوية) "المتجمدة".

المتأمل في تاريخ الاخوان المتنوع في الدولة والمجتمع، والذي خاضت فيه الحركة كل تجارب العمل الثقافي والدعوي والسياسي، من الكلمة الطيبة إلى الجهاد المسلح، سيدرك ولا شك قدرة هذه الحركة على التفاعل والتأقلم والمرونة، تلك التي جلبت عليها من الخصوم - تيارات ودول - الحملات الظالمة بل والحرب الشعواء. ويكفي دليلا قاطعا على قوة تلك الحركة، أن خصومها لم ينافسوها في ساحات الحرية والديمقراطية، وبأدوات التنافس المدني، وإنما واجهوها غالبا - بل دائما - بالقمع والاستئصال وقطع الأعناق.

وكل ما تتهم به الحركة عند التحقيق هو من باب: "رمتني بدائها وانسلت" ومن باب "حرام عليكم حلال علينا".

حتى بعض محاولات أجنحة الإخوان "افتكاك السلطة"، لم تخرج عن التقاليد العريقة التي لجأت إليها الحركات قديما وحديثا. وأن الإشكال الحقيقي ليس في السعي لافتكاك السلطة، وإنما في سد باب الحرية والديمقراطية والتنافس الحر. وكما في كل زمان، فإن مثل هذه الوسائل، يرفع فيها المنتصر عاليا ويعد منقذا، ويشنع فيها على المنهزم ويعد خارجا ويستحل دمه، فبين الكرسي والمقصلة، والزعامة والخيانة، لحظة حاسمة!

لكن تاريخ الاخوان برغم المحن الشديدة، شاهد على أنهم لم يبيعوا أنفسهم ولا أوطانهم لأعداء الأمة، ولم يساوموا على الحرية والاستقلال في أي وطن من أوطان المسلمين. كما يشهد التاريخ أن الاخوان ساهموا مساهمة فعالة في بناء دول، وحافظوا على النسيج الاجتماعي في أي بلد كان لهم فيه دور، وكانوا أبعد الحركات عن الفتن والنعرات الطائفية.

يتهم الإخوان زورا وبهتانا بأنهم ضد "الدولة الوطنية". وهي فرية يسعى خصومهم تثبيتها باطلا، خاصة بعد موجة النيوليبرالية المتوحشة، التي زيفت القناعات من خلال "تحويل" أشباه دول إلى "دول وطنية كاملة السيادة"! ومع ذلك فلم يسع الاخوان في أي يوم إلى تقويض دول لحساب "أممية" مزعومة. والدليل على ذلك أن أجنحة الاخوان، كانت تعمل في كل بلد على حده وفق ما يقتضيه مجال العمل الوطني، حتى أنك قد تجد تلك الأجنحة تعمل بطرق وأساليب وسياسات متعارضة بينها، وتنشئ لذلك رؤى وأفكار متعارضة وذلك بسبب مقتضيات وممكنات العمل الوطني.

لكن ما يغيض هؤلاء هو استمرار روح الرابطة العربية أو الاسلامية لديهم، والتشوف للتكامل والوحدة بين أقطار الأمة الواحدة، وقد تخلى الجميع عن تلك الروح وذلك التشوف.

أما جريرة الإخوان الكبرى التي جلبت عليها حقد وعداء وحرب الجميع، فهو الموقف من تحرير فلسطين. ذلك الموقف الذي لم يتخل عنه الإخوان ولم يساوموا عليه. وهو الموقف الذي برز في أول حرب قادوها على أرض فلسطين سنة 1948، وانجر عنها "القرار الدولي" بمحاربتها في اجتماع فايد 10 نوفمبر 1948، بين كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا، والذي استمر كما هو، ولم تزده الأيام إلا تثبيتا. ذلك القرار الذي قاد إلى حل جماعتهم الأم مباشرة بعد الاجتماع بحوالي شهر، واغتيال مؤسس حركتهم ومرشدهم، ومحاكمتهم بتهم وتكييفات قانونية، لا زالت تتكرر هي نفسها في أي بلد يحاكمون فيه.

لذلك فليس غريبا أن تستعر الحملة بعد طوفان الأقصى، وأن يزداد سعارها بعد فتح دمشق.

كل هذا لا يعني أن تاريخ الاخوان خال من الأخطاء ... وبعضها أخطاء كبيرة، كلفتهم وكلفت أوطانهم. ولكنها أخطاء الطريق، وأخطاء الصراع ... أخطاء التجارب، وأخطاء البناء ... منها ما تحكمة بنى اجتماعية وجيوستراتيجية وجيوسياسية فوق طاقة تأثيرهم وتجربتهم ... ومنها أخطاء القصور عن الأخذ بالأسباب ... ومنها أخطاء القعود عن المحاسبة والتجديد والتجدد ... وبعضها تحكمه موروثات ثقافية لا تنتزع إلا بالزمن المديد ...

لكنني لا زلت على اقتناع كبير بأن مدرسة الإخوان المسلمين، فكرة تستمد قوتها من انتمائها للاسلام، وحرصها الشديد على الدوران في فلكه، وثباتها رغم المحن على ذلك، برغم ما سعى ويسعى إليه خصومها من تحويل وجهتها عنه.

وطالما بقيت الحركة محافظة على ذلك، وطالما حافظت على استعدادها للتجديد والتجدد ... وطالما بقي خصومها يواجهونها بسلاح التنكيل والاستئصال ... فإنها ستبقى رغم كيد الكائدين ... ولن تستبدل حتى تتمكن ... تتمكن كفكرة ... وحين تعجز عن تجسيد قناعاتها وبرامجها على الأرض في مناخ الحرية والديمقراطية وتفقد ولاء الجماهير لها ... تستبدل وفق سنن الله الغلابة في الخلق جميعا ... "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

تاريخ أول نشر 2025/1/11