لنسمّ الأمور بأسمائها...
لا يبدو أنّ انفراجة ما في الأفق.
أذكر أنّني كتبت، مرّة، أنّ المعتقلين قد يأتي عليهم يوم يُخرَجون فيه من السجون مثلما أُدخلوها. يخرجون ولا يبقى منهم غيرُ "أهل الشرّ" "بالمصريّ" والخطر الداهم "بالتونسيّ" على دولة التقدّم والحداثة. والمقصود بهم جماعة الإسلام السياسيّ، وأساسا حزب حركة النهضة. هؤلاء السجونُ اختصاصُهم لا يخرجون منها إلّا ليعادوا إليها. والتّهم التي على مقاسهم جاهزة قابلة للتكييف دوما.. وخبراء التكييف موجودون ومُدَرَّبون جيّدا. وعادي، جدّا، في عرف الدولة، لأنّها حداثيّة، أن يُزَج برئيس برلمانها في السجن، فقط، لأنّه من تيار الإسلام السياسيّ، وإن قال هو في تنظيراته إنّ زمن الإسلام السياسي قد مضى ووصف نفسه بأنّه "ديمقراطيّ مسلم " قياسا على " الديمقراطي المسيحيّ" في دول أوروبّا المسيحيّة.. وأروبّا هي أمّ الحداثة.
هنا في تونس، ينتخبه الشعب رئيسا للبرلمان لتضعه الدولة في السجن. عاديّ جدّا. ولربّما، لو كان الأمر ممكنا، للاحقت جميع الذين انتخبوه لتعاقبهم على انتخابه.
لماذا أقول ذلك؟
السلطة تحتاج إلى خطر داهم دائم تعلّق عليه فشلها وتغطّي به قلّة حيلتها في التنمية، وتبرّر به عنفها الذي تحتاج إليه لإنتاج هيبتها. وهيبة الدولة، في نطاقنا العربيّ، لا تكون إلّا بالعنف، وإلّا فلا هيبة لها. وحين تقمع أكبر فصيل سياسيّ وتنكّل بقياداته تظهر هيبتُها ويخافها الآخرون. بذلك حكم بن علي طيلة ربع قرن.
الأطراف الأخرى لا تخافها السلطة. وبعضها سَهْلٌ عليها تطويعُه واستعمالُه في حربها ضدّ الإسلاميين. وتكرار تحالفات تسعينات القرن الماضي ممكنٌ جدّا.
الوطد والقوميّون الذين تحالفوا مع بن علي وتواطؤوا معه على سحق الإسلاميين لا يزالون على مواقفهم الأولى لم يتغيّروا. تناقضُهم الرئيسُ مع التيّار الدينيّ. "الإسلاميّون منتَج كولونياليّ كما يحلو لمتقعّريهم أن يتهامسوا". أمّا بقية التناقضات فثانويّة. تلك هي معادلتُهم التي يعيشون عليها أمس واليوم وغدا إن بقي لهم في عمرهم الافتراضيّ غدٌ. وما جرى في غزّة وسوريا سيزيدهم مكابرة ويضاعف من عنادهم ويعود بهم إلى الوراء. هؤلاء مستعدّون لمواصلة وظيفيّتهم وتقديم خدماتهم اللامشروطة للسلطة لقاء أن يروا الإسلاميين خلف القضبان وفي المهاجر وفي خرسانات الجسور.
القوميّون لا وزن لهم، "تكبير كدس" فقط. قيادات حزب بن علي الاحتياطيّ "الاتحاد الديمقراطيّ الوحدويّ" هم أنفسهم قيادات حركة الشعب والتيار الشعبيّ. القوميّون وظيفيّون درجة ثانية. استعملهم الوطد في عهد بن علي مثل نبات حول جدوله ليوحيَ بأنّ بالجدول ماءً. واستعملهم محرارا لتعديل "الميزان" النقابيّ. وحتّى لمّا اغتال الإرهاب زعيم الوطد كان لا بدّ من إلحاقه بأحد "زعماء" القوميّين. وحتّى في التعامل مع الموتى لم يخلُ المشهد من "بطل و"كمبارس". واستعملهم في برلمان 2019 للإجهاز على التجربة الديمقراطيّة.. "حذو النعل بالنعل" !
"كابينة القيادة" بين أيدي الوطد. وخطّة رضا لينين في اختراق الدولة في عهد بن علي لا تزال قائمة. وعنوان "أخونة الدولة" الذي حذّروا منه في عشرية الانتقال الديمقراطيّ ليس إلّا دخانا للتغطية على "أوطدة الدولة" التي كانت في عهد بن علي ولا تزال قائمة.
بن علي استعملهم للتنكيل بالإسلاميّين.. فقد اتّخذ منهم في عهده هم المخبرين والجلّادين. أمّا بعد هروب بن علي فصاروا هم ورَثته الذين يستعملون دولته.
الوطد وضعوا أيديهم على الدولة التونسية في قواها الصلبة وفي قواها الناعمة. وحتّى تلك "النائمة". وما يبدو من اعتذاريات بعض " رموزهم"، اليوم، ليس أكثر من خطّة لإعادة الانتشار.
الوطد هم الوحيدون الذين لم يخسروا مواقعهم في الدولة. هيمنوا على الإعلام واستولوا على الثقافة وعشّشوا في التربية واحتكروا العمل النقابي في مختلِف القطاعات. وتحرّشوا بالقضاء حتّى أرعبوه. حزب يساريّ راديكالي اخترق جميع مفاصل الدولة. وحتّى منظّمة الأعراف لم تسلم منه إذ تسلّل عناصرُه إلى مكتبها القياديّ.
وليتهم فعلوا للناس شيئا نافعا يحسبونه لهم. لقد قصروا همّهم على التنكيل بالتيار الإسلاميّ الذي كلُّ ذنبه أنّه سفّه نظريّاتهم في الجامعة وأزاح الغطاء عن زيف مقولاتهم وعرّى تعفّنَها. وبيّن للناس أنّ الدين يمكن الّا يكون أفيونا للشعوب. حقدهم على الإسلاميين تعدّاهم إلى حقد على المجتمع. فهم يستعملون الدولة لقهر المجتمع.
الوطد هو سوس الدولة الذي ينخرها يمنعها من النموّ.. يحول دون حريات الناس فيها ويحول دون مصالحة بين أبنائها تتقدّم بها.
إذا أردتم صلاح حال دولتكم انتبهوا إلى هؤلاء.. عالجوهم بالحكمة.. وإن استعملوا ضدّكم المبيدات.
طائفة مهزومة في صناديق الانتخاب استعملت الدولة لتكون هي الطائفة المنصورة بقوّتها. تلك الطائفة تنكّل بالإسلاميين. فإن هم صرخوا من مظلمتهم قالوا لهم أنتم تتاجرون بمظلومية لا حياة لكم دونها.
أَلقاهُ في اليَمِّ مَكتوفاً وَقالَ لَهُ * إِيّاكَ إِيّاكَ أَن تَبتَلَّ بِالماءِ
إن كان من حديث عن المظلومية فلنعد بها إلى جذرها، والظلم هو جذرها. الذين يَظلِمون هم الوطد والذين يُظلَمون هم الإسلاميّون.
فمن الذي يستعمل المظلومية ليبقى؟ الوطد أم الإسلاميّون؟
أليس أنّ المظلوم هو الذي يناضل للخلاص من الظلم؟
مشكلة البلاد أنّ الوطد وراء كلّ المصائب بها. ولكنّهم جبناء لا يتحرّكون إلّا في الزوايا المعتِمة.. بخناجر مسمومة.
أمّا الثلاثة الذين خلّفوا، فقد كانوا شركاء في ذبح التجربة الديمقراطيّة الوليدة وإن كان منهم من مشى في جنازتها وتظاهر بالبكاء، ولا يعني اليوم "تضامنهم العاطفيّ" الفيسبوكيّ مع قيادات النهضة أكثر من دخان تضليل.
القطط "لا تصطاد لله".
قد يكون نزل عليهم ثلاثتهم "سكريبت" وكان عليهم تلاوته..
تضامنُهم خداع.
تاريخ أول نشر 2025/2/20