search

إقصائيّون في لحن خطابهم

1. قرأت للصديق الأمين البوعزيزي سجالا له مع بعض متابعيه حكى فيه أقوالا لشخص يدعى الدكتور المولدي القسّومي. أذكر أنّ اسمه وصورته مرّا بي في بعض مشاهداتي العابرة ببعض منابر الإعلام. ولمّا قرأت ما كتب الأمين بحثت عن الرجل فوجدت تعريفا به يقول: المولدي قسومي هو باحث في علم الاجتماع، وشغل عضو الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وله عديد المؤلفات.

أورد الصديق الأمين للأستاذ المولدي قسّومي قوله:

((لم أندم كما ندمت على استعمالي عبارة "العشرية السوداء" في أحد مقالاتي بجريدة المغرب... لا يمكن إلغاء الاسلام السياسي الذي مازال حاجة مجتمعية لدى طيف واسع من التونسيين، معركتنا ليس إلغاء هذا التيار السياسي الذي نقدّر أنه في ظروف طبيعية (حريات سياسية) لن يتجاوز العشرة بالمائة تنقص أو تزيد لو ترك يكمل دورته دون الانقضاض عليه وإهدائه مظلومية انعاش مثلى كما صنعت معه شعبوية الخطر الدائم...أمد يدي لكل من تجمعني به عشرين بالمائة ولا أرفض إلا الاقصائيين على اليسار واليمين... ))

وليأذن لي الصديق الأمين بأن أقول ملاحظات تتعلّق بما فهمت من منطوق الرجل:

2. الخطأ بشريّ. وأنا ارى أنّ أجمل، نعم، أقول أجمل، ما في الإنسان أخطاؤه. فهي، في فهمي، عناوين بشريّته التي استحقّ عليها التكريم والتعظيم. وأجمل من الخطأ إقرار المرء بخطئه. تلك شجاعة لا يبلغها إلّا من اجتمع فيه العقل والشجاعة. وقلّ أن يجتمعا. ومن اجتمعا لديه فهو ذو حظّ عظيم.

3. عبارة "العشرية السوداء"، أن ينطق بها إعلاميّ يأكل بقولها الطعام شيء وأن يكتبها بلسان القلم دكتور في علم الاجتماع شيء آخر. الوصف حُكمٌ، والأصل في من درس علم الاجتماع ألّا يصدر حكما يكتبه إلّا متى أقامه على بحث محترم وبناه على تحليل عقلاني رصين. لا يصدر حكمه إلّا بعد أن يكون قد استند إلى مؤشّرات دالّة ومعايير دقيقة تجنّبه أن يعود، بعد سنوات، إلى حكمه فيعتذر عنه.

أنا لم أقرأ ما كتبه الأستاذ قسّومي، في مقاله الذي ذكره بعبارة العشرية السوداء وأقرّ بخطئه الذي ندم عليه فيه معتمدا في وصفه ندمَه عليه مستعملا أسلوب حصر "لم أندم كما ندمت على استعمالي عبارة "العشرية السوداء" في أحد مقالاتي بجريدة المغرب".

ولكنّني أذكر أنّ في ثقافتنا حديثا غير قليل عن زلّة العالم وبيانا لما يكون من ضررها. وأظنّ أنّ الأستاذ قسّومي "عالم" لدى طلبته على الأقل. ولست أدري إن كان في إقراره بزلّته ما يرقى إلى الاعتذار أو يردّ ندما بعد فواته.

4. حديثه عن الإسلام السياسي فيه ما لا يخفى من استعلاء استشراقيّ. بدا من التسمية (الإسلام السياسيّ). لست أدري إن كان على دراية بدلالات التسمية لدى أبناء هذا التيار ولدى خصومه. ألا يجعل حديثك عن خصمك بتسمية أنت واضعُها له من حكمك عليه حكما مجروحا؟

ثم ما الذي يعنيه قوله ((لا يمكن إلغاء الاسلام السياسي الذي مازال حاجة مجتمعية لدى طيف واسع من التونسيين))؟

هل الأصل أن يلغى الإسلام السياسيّ غير أنّه يتعيّن تأجيل برنامج الإلغاء ريثما تزول حاجة طيف واسع من التونسيين إليه؟ وذلك الطيف الواسع من هو؟ أليس هو الإسلام السياسيّ نفسه؟ أليس ذلك الطيف الواسع هو المرجع الذي تشير إليه تسمية الإسلام السياسي بدالّها ومدلولها؟

هل يمكن أن يقدّم الأستاذ تقديرا استشرافيًّا يعلمنا فيه بتاريخ الإلغاء المرتقب حتّى نعلم منه الموعد الذي قرّره لفصل العلامة عن مرجعها المتعيّن؟

هو عالم اجتماع ولا شكّ أنّه يملك نظرة نافذة تساعدنا على النظر.

الأمر في ما أفهمه له وجهان:

• الأوّل يقينيّ يقول إنّ إلغاء الإسلام السياسي من حتميّات التاريخ.

• أما الثاني فتقديريٌّ يؤجّل الإلغاء إلى حين تتوفّر الظروف الملائمة. فالإسلام السياسي لدى السيّد قسّومي ليس شريكا في الوطن ولكنّه ضرورة مجتمعية آنية يفرض التاريخ إلغاءها لاحقا. "معركتنا" لإلغائه هي الآن مؤجّلة.

ولكن، من هي تلك الجهة التي يوكل إليها إلغاءُ الإسلام السياسي حين تكون الظروف مناسبة لعمل الإلغاء؟

5. يعود الأستاذ قسّومي إلى مفردة الإلغاء حين قوله ((معركتنا ليس إلغاء هذا التيار السياسي الذي نقدّر أنه في ظروف طبيعية (حريات سياسية) لن يتجاوز العشرة بالمائة تنقص أو تزيد لو ترك يكمل دورته دون الانقضاض عليه وإهدائه مظلومية انعاش مثلى كما صنعت معه شعبوية الخطر الدائم...)).

أرى أنّ ترديده للعبارة يعكس خلفيّة استئصاليّة لا يفلح منطوق الخطاب في إخفائها. الإلغاء استئصال ولكنّه مخفّف بفعل أثر علم الاجتماع الذي درسه الأستاذ ويدرّسه. إذا كان الاستئصال الآن وهنا فإن الإلغاء يأتي كما لو أنّه سيرورة تاريخية يفهمها الأستاذ جيّدا بحكم اطلاعه على قوانين التاريخ ودرايته بمحطّات حتمياته.

6. يبدو لي أنّ الأستاذ قسومي يصدر، حين يكتب أو يتكلّم، عن هوى فيه ميل إلى إقصاء الإسلام السياسي الذي لا يرى له لزوما رغم أنّه لا يزال "حاجة مجتمعية لدى طيف واسع من التونسيين".

ما فهمته من مساهمات الأستاذ أنّه من طيف اليسار "الواسع". ويمكن هنا أن أسأله أيّ الأطياف الاجتماعية أوسع، تلك التي حاجتُها الإسلام السياسيّ أم تلك التي الماركسيةُ حاجتُها ؟

ألم تكن عشر سنوات "سوداء" كافية لتعلّم الأستاذ قليلا من التواضع؟

ألا يزال يراهن على أن يغيّر بأدائه وأدواته وعي ذلك الطيف الواسع من أبناء المدارس والجامعات؟ وماذا ينتظر حتّى يخوض معركته؟

هل التفت الأستاذ، قليلا، لينظر في عمر اليسار في تونس؟ أيّ الفريقين أقدم عهدا؟ وأيّهما أولى بأن يُتعهّد حتّى لا يتعهّد التاريخ بإلغائه؟

ألا يرى الأستاذ أن اليسار التونسيّ القديم قد فشل في أن يكون هو الحاجة المجتمعية التي تقطع طريق "الحاجة" على الإسلام السياسي؟

7. قال الأستاذ: ((نقدّر أنه (تيار الإسلام السياسيّ) في ظروف طبيعية (حريات سياسية) لن يتجاوز العشرة بالمائة تنقص أو تزيد لو ترك يكمل دورته دون الانقضاض عليه وإهدائه مظلومية انعاش مثلى كما صنعت معه شعبوية الخطر الدائم...)).

هذا كلام معقول أوافقه عليه. لأنّني أرى أنّ الإسلاميين في تونس لم يكونوا موفَّقين في أدائهم في عشرية الانتقال الديمقراطيّ التي كانوا من فواعلها. إخفاقهم في إدارة الدولة وقصورهم عن حلّ مشاكل الناس قلّصا من أنصارهم وحدّا من عدد ناخبيهم.

ولكنّ الأستاذ قدّم نسبة مائوية باقية للإسلام السياسي لا يتجاوزها، فما هي القواعد التي أقام عليها الأستاذ تقديره هذا؟

وما هي أسانيده العلميّة المعتمَدة؟

هل في هذا الكلام ما يدلّ على عقل علميّ؟ أم هو، فقط، حديث الأماني؟

8. يبدو لي أنّ اليسار التونسي من أول نشأته إلى اليوم لم يتحرّك خارج دورة الأماني. هو تيّار تقدّمي لا يتقدّم. جدير به أن نقول فيه إنّ الدوالّ فيه قد ضلّت مدلولاتها.

لقد فشل الأستاذ في أن يتحدّث بخطاب عاقل. هو يقرّ بأن تيّار الإسلام السياسي كان مظلوما في زمن بورقيبة وكان مظلوما في زمن بن علي وهو الآن مظلوم. وأظنّه يقرّ بأنّ"العشرية السوداء" هي اللحظة التاريخية الوحيدة التي رُفع فها الظلم عن الإسلام السياسيّ. ولكنّه يكابر ويصرّ على أن ما يتعرّض له الإسلاميّون ليس ظلما بل هو هدية تجعلهم يتغذّون على المظلومية ! يا رسول الله. حتّى على الموت لا أخلو من الحسد؟

لو كان الأستاذ قسومي يعقل لرأى الظلم العاري الذي يتعرّض له الإسلاميون في مختلف مراحل الدولة الوطنية. ولكنّه لم ير ظلما بل مظلومية يصفها بالهديّة. ولو كان يعقل لأقرّ بأنّ اليسار كان ماعون الظلم الذي استعملته الدولة ضدّ التيار الإسلاميّ. ولكنّ مثله لا يقرّ ولا يعترف.

9. ما جاء على لسان الرجل من كلام لا عقل فيه ولا شجاعة. بل هو إقرار بالعجز عنهما معا. وإن لم يأت الإقرار تصريحا.

منطوق خطابه البعيد أن التيار الإسلاميّ حقيقة واقعة لا يملك أحد أن يلغيَها، الآن على الأقل. والرهان على الحتمية التاريخية لتفعل فعلها الإلغائيّ رهان كسول ولا عقلانيّ من يسار عجز عن أن يكون تونسيّا ولكنّه استولى على الدولة وجعل من في وجوهها الصلبة والناعمة آلته لينتصب قاضيا يحاكم مخالفيه عبرها ليدوم الظلم. والظلم مؤذن بخراب العمران.

لو أنّ الأستاذ التفت إلى نفسه يحاكمها لربّما قدّم لنا ترجمة للماركسية تفيد منها البلاد. ولكنّه لا يزال أسير المناكفات مثل رفاقه.

10. يبدو لي أنّ مثقّفي اليسار من قبيل الأستاذ القسومي لديهم قابلية أن يكونوا معتدلين يستجيبون للعناوين التي يقولونها من قبيل مدّ يده ورفض الإقصاء. هؤلاء قد لا يكونون بحكم دراساتهم استئصاليين. ولكنّني أظنّ أنّهم يخافون من عوامّهم وغالبية المنتسبين إلى اليسار هم من العوامّ، انغلقت أذهانهم على آخر جملة سمعوها في تكوينهم الماركسيّ الابتدائيّ زمن التلمذة.

لا أدري متى نسمع من مثقّف يساري قولا من قبيل :

أثبتت التجربة أنّ الإسلام السياسيّ واقع متجذّر في هذه البلاد لم تفلح الدولة الحداثيّة بجميع آلاتها في إقصائه حتّى في أشدّ عهودها ظلما. هو، حقيقة واقعة لا نملك إلّا أن تعرف بها. هم في الأفكار وفي السياسة خصوم ولكنّهم شركاء في هذا الوطن.

وفي انتظار أن يثور اليسار على نفسه ويجدّد أفكاره ويغيّر من طرائقه المتكلّسة سيبقى الإسلام السياسيّ هو الأقدر على أن يكون بين الناس يعاملهم معاملة الأهل لا معاملة المتبوع لتابعه.

متى يدرك مثقّفو اليسار أنّ كثيرا من الإسلاميين هم أقرب إلى روح ماركسيتهم منهم ؟

متى تخرج فكرة "الإلغاء" من رؤوسهم وتغادر تداولهم؟

تاريخ أول نشر 2025/2/17