في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المُوبِقاتِ"
نشأنا وكان أول ما أخذنا من ديننا حسن الخلق قولا وعملا .. والقول عمل ... يحاسب الإنسان على قوله تماما كما يحاسب على فعله ...
تخاصمنا كثيرا مع غيرنا، وبلغ الخصام في حدته أحيانا مبلغا كبيرا وصل إلى حدود ممارسة العنف المادي ... ولكن عفة اللسان لم تفارقنا ... ألفاظا ومضمونا، وخاصة ما يمس ذمم الناس وأعراضهم ... اتهمنا بتهم كثيرة، وليس منها فحش القول والبذاءة ... كان فينا "سليطوا" اللسان، الذين يحاصرون خصومنا في ما يقولون ويرددون ... لكنهم لم ينحدروا يوما للطعن واللعن واستعمال كلام السوقة.
أقمنا التجمعات الطلابية التي يحضرها الآلاف، والتي لا يقدر على تجميعها سوانا، ونعطي الكلمة فيها لكل التيارات السياسية، بمن فيها تلك التي لا يتجاوز عدد أفرادها الرفيق وخطيبته... ويعتلي هؤلاء المنصة التي لا يحلمون بها، ويأخذون المصدح لينطلقوا في خطاب كراهية وسب، ولا يقطع كلامهم ولا يسحب المصدح من أيديهم حتى ينهون تدخلهم ... ونرد عليه الرد المفحم ولكن بأخلاقنا ودون تعد أو رد على البذاءات.
كنا ننظر إلى أخلاقنا باعتبارها رأس مالنا الذي يجب أن لا ينقص منه فلس واحد.
ما نقرأه وما نتابعه من ردود أفعال ليست من أخلاقنا، وليست من "أسلحتنا" التي كنا نقاوم بها، ولا من عدتنا التي كنا نجادل بها، ولا من منطقنا الذي كنا نحاور به، ولا من سمتنا الذي عرفنا به.
الغيرة لا يمكن أن تكون سببا في انحرافنا، والحرص والمسؤولية لا يمكن أن تكون سببا في تنكبنا عن هويتنا الأخلاقية، مهما كانت شدة الخصوم ومهما نفثت من سموم، لا يجب أن تحيد بنا عن هدي ربنا: "وقولوا للناس حسنا" "وجادلهم بالتي هي أحسن" "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" وآيات الحجرات ... وغيرها كثير.
وحتى آية "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ..." لها حدود، وليس منها الرد على الفحش بالفحش، وعلى البذاءة بالبذاءة، وعلى هتك الأعراض بهتك الأعراض، وعلى الاتهام بالباطل بالاتهام بالباطل ...
وفي الهدي النبوي تفصيل لمكارم الآخلاق وأداب اللسان وكلها مطلوبة ويرقى الالتزام بها إلى مستوى الواجب وليس المندوب فقط ...
منذ أسابيع كتب الصديق أحمد الجربي منشورا صغيرا، مستنكرا ما يصدر عن بعض منتسبي النهضة ... ولكنني استنكرت ما قام به، وتحاورنا على الخاص، وحجتي أن من يقوم بذلك عدد قليل، وأن السواد الآعظم من النهضاويين بعيدون عن ذلك الأسلوب ... لم يوافقني في تحليلي ... وأتفهم رأيه، من حيث أن الأعلى صوتا أحيانا يحجبون الأعقل، وتتحول القلة وكأنما هي الكثرة ... والمنتصبون بحرص وحماس للدفاع عن النهضة، يعتبرون أن ذلك يشرع لهم أن يتصرفوا من دون رادع. ولكن الحرص والحماس لا يبرران مطلقا الانحدار الأخلاقي. ربما يبدو لهم الأمر هينا، والحقيقة أنه في رأيي ليس كذلك.
لكنني للأسف، لاحظت كثرة ملفتة للمشجعين والمزايدين في التعاليق، وبعضهم ممن يتخفون وراء أسماء مستعارة، تسمح لهم بزعمهم أن يقولوا ما يريدون، ولو كان فيه تجاوز لا يستطيعون القيام به بأسمائهم الحقيقية!
ما فائدة كل ذلك؟ ما الحكمة من كل ذلك؟ لا شيئ في تقديري غير التنفيس عن حالة غضب ... والغضبان في شرعنا لا يحق له أن يفتي ولا أن يحكم ... بل أن يتكلم ... حتى يهدأ ... فإن كان قاعدا فليقف وإن كان قائما فليمشي ... وعليه أن يتوضأ حتى يطفئ نار الغضب التي بين جنبيه ... هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ... علينا أن نأخذ المعنى منه والمقصود منه.
أسلوب المماحكة وتصيد الأخطاء والتنمر والاستفزاز والسخرية بعيد كل البعد عن أخلاقنا ... ولن يأتي منه خير .. ولن يدفع شبهة أو يرد اتهاما أو يقارع حجة أو يرفع لبسا .... وإنما سيزيد من صب الزيت على النار، والانتصار للنفس، والمكابرة.
الزوبعة التي أثيرت أخيرا لا تستحق كل ذلك أبدا، مهما كان صواب أو خطأ صاحب الرأي ... وكل الردود "العنيفة والمتجاوزة حدود الخلق الكريم" غير مقبولة مطلقا ....
رغم تفهمي لمن استفزهم سياق تقديم الرأي، فإنني لا أرى مبررا للتجاوز ... ليس الحديث عن "الحل" في أصله بدعا من القول ... هذه الحركة دعا بعض قيادتها لحلها منذ 77 واستمرت، وأنا شخصيا دعوت إلى حلها في نص كتبته بعيد الانقلاب ... والنصوص يتعامل معها كآراء وليس كأحكاما، وتفهم في سياقها، ولا يستتحق الأمر تشنجا واتهاما، وإنما يحتاج ردا وتفاعلا هادئا لمن يرى وجوب الرد ...
ختاما أنصح الإخوة والأخوات الحريصون والحريصات على الدفاع عن الحركة أن يتقوا الله فيها، وأن يكونوا لسان دفاع عن الحق، ولسان صون لصورة حركة عمادها الأخلاق ... بكل معاني الأخلاق كبيرها وصغيرها دقيقها وعميقها ... وربي يصلح الحال ...
تاريخ اول نشر 2025/5/13