الإسلام الغائب من المسرح العالمي بعد أن كان القوة القائدة والقطب الأبرز في منظومة دولية تتردد بين الحرب التي وقودها المصالح المادية والجيوسياسية وبين السلام الذي هو رسالة الأديان
وفي نطاق حرب المصالح والنفوذ والتمددوالغزوات وتوسيع المجالات الحيوية أخذت الصراعات المادية طابع الحروب الدينية على خلاف رسالة الأديان
الإسلام الغائب لم يعد قوة وكتلة حضارية وتاريخية ولكن أصبح كمعطى جغرافي يحمل الآثار الثقافية لرسالته كدين والآثار التاريخية لدوره كقوة فرضت على العالم نظام هيمنة ينحو نحو تحقيق التوازن والعدالة
وقد أفلت تلك المنظومة فأصبح الإسلام ساحة لمطامع قوى صاعدة تمددت على حساب تراجعه وتغذت من فقدانه القدرة على بسط النفوذ الروحي وعلى فرض نظام أمن يسود العالم ويكون إطارا للعلاقات الدولية..
فقد الإسلام مركزه ولم بعد مركزا للعالم الناهض وأخذ طريق التقهقر على مدى قرون لم يتفطن خلالها المسلمون إلى أن تراجعه التدريجي هو إيذان بدورة حضارية سيكون فيها منقادا ومحل أطماع وستذبل روح التجديد فيه وتنكمش قوته الخلاقة ويتآكل فلم بعد وحدة جغرافية ولا جهة مبادرة تاريخية ولا شرطيا يبسط النظام ويقيم العدالة العالمية ..
وكانت آخر مشاهد ارتطامه المدوي وتحوله من الوحدة إلى التفكك ومن القوة إلى الهوان سقوط الدولة العثمانية التي يتدخل فيها الحضارة الإسلامية مرحلة تدبير المسلمين شؤونهم دون الإرتكاز إلى مرجعية ثقافية موحدة لأنهم ما عادوا وحدة سياسية ولا قوة حضارية مهيمنة ولا قوة عسكرية مهابة ..صاروا أثرا لمنظومة تأثير تفككت
وقد دخلت البلاد الإسلامية والمنطقة العربية مرحلة التشظي في عالم يقوده ما صار يسمى "الغرب" l’Occident الذي ستقوم ضده تيارات ثقافية ودينية إصلاحية وإحيائية تريد التوقي من الدور التقويضي للغرب الصاعد والمهيمن الذي يرى في الإسلام كدين عامل مقاومة أساسي لغربنة العالم وتوحيده تحت راية التمظهرات العصرية للثقافة اليهودية المسيحية المشبعة بالروح الصليبية التي كانت وقود حروب زحزحة الإسلام من مركز القيادة إلى حالة التبعية بمفعول الإنحطاط الداخلي أولا وبمفعول التشكل المضاد للإسلام كقوة غزو للعالم وإبادة لشعوب ماتزال على هيئتها الأولى لا فارق بين طبيعتها وثقافتها وغير مؤهلة لمقاومة روحية وعسكرية للغرب المتمدن والمحكوم بروح الظفر والمدجج بسلاح السيطرة والإبادة العرقية والثقافية لايرى في خصوصيات الشعوب إلا جاهلية ينبغي أن تسحقها الأنوار المسلحة والجامحة
ورغم مرور قرون على إنطلاق دورة حضارية غربية لم تصمد في وجهها مقاومة الإمبراطورية العثمانية الواقعة تحت مفعول إنحطاطها الداخلي وفشل محاولاتها في الإصلاح وفي التماسك لم توفق التيارات الإسلامية الإصلاحية والتجديدية والإحيائية في نفخ الروح في هذا الجسد المحتضر لكنها تبلورت في نهضات وصحوات وحركات تحرر تنشد تارة إلى المرجعية الإسلامية وتارة تقتبس الأنموذج الغربي ممتزجا بعناصر من الثقافة والحضارة الإسلاميتين حتى غدت نهضة الأمة الإسلامية المنشودة حالة صراع داخلي بين المرجعيات خاصة مرجعية فك الإرتباط بالغرب ومرجعية الإتباع من داخل منظومته الموحدة للعالم
وقد صار يطلق على متبعي مرجعية فك الإرتباط وجماعاتهم "الإسلام السياسي" وهي تسمية حديثة تغطي حالة ثقافية وسياسية متنوعة ومتشرذمة لا رابط بينها إلا ما ترى فيه أنظمة التبعية والخنوع من خطر يتهدد دورها وكياناتها التي رسم حدودها الإستعمار لضبط حالة التشظي التي دشنها وهو يوزع تركة الرجل المريض لا على ورثته الشرعيين وإنما على الشركاء في قيادة العالم الجديد عالم ما بعد الإسلام ..
ولأن الإسلام لم يكن عرضا تاريخيا ولم يكن ثقافة عفوية لشعوب لم تغادر حالة الطبيعة بل كان فطرة إنسانية وطفرة حضارية ومؤسسا للمدنية في مواجهة التوحش والقوة الغاشمة العمياء فقد استلهمت حركات الصحوة والإحياء من عقيدته التحريرية ومن شريعته السمحاء ومن تمجيده للحياة وللتهذيب الإجتماعي ولمكارم الأخلاق وللعدالة بين البشر مشروع نهوض وطاقة مقاومة وبناء حتى عادت في فجر الألفية الثالثة لتكون لا مجرد معطى جغرافي ومسرحا للأطماع إنما فاعلا جيوسياسيا ولاعبا أساسيًا في خارطة العالم ضمن قواه الفاعلة ومنظومة تأثير تستدعى مكوناتها المتوزعة على الخارطة لإحداث التوازن أو للحفاظ على خطوط المصالح أو تعديلها بما يحفظ الإستقرار
ولكن العالم "المتحضر" لا تحكمه القيم فقط ولا تسوى صراعاته بالحوار والتفاوض فحسب خاصة وأن جغرافية العالم الإسلامي تختزن أثمن ثروات العالم لذلك يتم جر الإسلام السياسي دون وعي منه وإدراك لخفايا لعبة الأمم وهو القوة الجديدة إلى أجندات القوى التقليدية لتجعل منه وقودا لحساباتها فتستنفذ طاقاته التاريخية لا في عملية الإنبعاث الحضاري إنما في صراعات المحاور والحروب بالوكالة ..
ولعله لهذه الأسباب وغيرها إختارت بعض الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أن تعلن نفسها أحزابا مدنية منظوية ضمن منظومة الأحزاب الديمقراطية المحافظة لا المنتسبة إلى حالة الإسلام السياسي الممتدة تاريخيا وجغرافيا
ولعل هذه الأحزاب المرشحة لتكون من ركائز إقامة دولة القانون وترسيخ العدالة والديمقراطية في بلدانها تحتفظ لنفسها بمسافة الأمان تلك وبفك الإرتباط بتجارب لم تقدم الصورة الأمثل لإسلام عائد لعلها بذلك تحتفظ بإمكان القيام بدور يجعل من الإسلام ولو جزئيا وفي مساحة جغرافية محدودة فرصة إبراز طابعه البناء كفاعل جيوسياسي لا توظفه قوى السيطرة العالمية في صراعاتها وإنما يوظف طاقاته التجديدية والإبداعية في تحقيق مصالحة مع العصر وتحقيق النفع العام في عالم لا خلاص له إلا تغذية نوازع الخير وإرادة العيش المشترك التي جاءت الرسالات السماوية للتبشير بها وتكريسها ..
تاريخ أول نشر 2022/2/11