search

الافتراق المحمود .... نحو آفاق أرحب للمشروع الحضاري

هذا المقال نشرته في 26\4\2016 قبل حوالي شهرين من المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة في مجموعة الصفا الخاصة على الفيسبوك، وهي صفحة تضم عددا كبيرا من القيادات العليا والوسطى للحزب، كما وزعته على عدد محدود من الأصدقاء داخل الحزب، وسلمت نسخة منه للشيخ راشد. ثم نشرته في صفحتي على الفيسبوك كما هو بدون تحوير بتاريخ 3\2\2017 مع التعليق التالي: "بدا لي أن التذكير به مهم، وقد أسفرت"نذر" ما أشرت إليه عن "مأزق" (أقول مأزق تلطيفا) ما بعد المؤتمر، في وقت كان كثير ممن يتصارعون الآن ويرفعون أصواتهم ويعلنون خيباتهم ينتظرون أن تسفر "مفاوضاتهم" أو \و "مناوراتهم" عن "نصيب".

أعيد نشره على هذه المدونة - مع تقسيمه بعناوين فرعية - للتاريخ والاعتبار ولحوار ضروري تقوده أجيال جديدة تحمل هم المشروع تحتفظ بخير ما في التجربة التجربة وتتجاوز أعطابها.

الدعوي والسياسي ... ظلال التجربة

الشمولية والواحدية

بدأ مشروع الحركة الاسلامية بتونس و نما مشروعا شموليا طولا و عرضا وعمقا، مستوحيا من خاصية الشمولية في الاسلام كدين، شمولية الكيان العامل لبناء ذلك المشروع وتجسيده في الواقع، ومستوحيا من صفة الوحدانية الالهية واحدية الكيان التنظيمي وواحدية القيادة، ومتشبعا بثقافة وتجربة إسلامية قائمة على "أحكام سلطانية " رسخت خاصيتا الشمول والواحدية بالمعنى الذي ذكرنا، وعمادها "أخلاق الطاعة " كما حللها الجابري في كتابه: العقل الأخلاقي، دون أن نتجاهل أن ذلك الفهم والتأويل للوحدانية والشمولية يكاد يكون انعكاسا لما تجسد في الواقع - واقع ستة عقود من القرن العشرين - من أنظمة شمولية واحدية . لا بل إن مركزية الدولة الشمولية التي استوت على سوقها في القرن العشرين بخلطة "تسلطية" "رعائية" مثلت الخلفية اللاشعورية لمركزية الدولة كأداة تغيير في عقل وشعور الحركة الاسلامية "يعد" للفوز بها "العدة" باعتبارها "التمكين" المبتغى.

سحر الدولة ... عصا موسى

ورغم ان "خيبات" الدولة و"خيبات" محاولات السعي للظفر بها قد خلخلت نوعا ما "العقيدة الدولوية"، لينفتح الاسلاميون – في إطار تغير الفضاء الفكري والثقافي العام - على الاسئلة الحارقة حول الدولة مفهوما ووظيفة وممكنات اصلاح وتغيير ،مع الجدل الذي بدأ في السبعينات حول ثنائية المجتمع والدولة، إلا أن الحلم بقي ثاويا في اللاشعور، حتى اذا ما جاء الربيع العربي وجد الاسلاميون أنفسهم - بل وغيرهم من الفرقاء - أمام "سحر" الدولة الذي كان قادرا ان يزيح في لمحة بصر كل الاسئلة والتساؤلات والقضايا والاشكاليات لينطلق الجميع في سباق محموم للظفر بـ"عصا موسى".

الدعوي والسياسي ... جذور الاشكال

بدأت ثنائية الدعوي (لدينا تحفظات على المصطلح ولكننا اضطررنا لاستعماله تقريبا للفهم) / السياسي في الحركة مبكرا مع انعطافة 78/79، عامي التحولات الداخلية والخارجية الكبرى التي ضربت بقوة الوعي السائد في صفوف الحركة وخلخلت أعمدته . وبرز وعي جديد بدأ يتغلغل ويترسخ مع الوقت، بفعل تراكم الأحداث ونوعيتها، قوامه أولوية السياسي على الدعوي . هذا الوعي استبد بمجموعة قليلة من نخبة الحركة وخاصة "أميرها" الشيخ راشد، لينطلق في صراع مزدوج لإثبات الوجود والفاعلية داخل الحركة مواجهة لوعي سلفي/إخواني قطبي، ووسط الفضاء الوطني من أجل الحق في التواجد كتيار من بين التيارات الساسية ومعني بما يهم المصلحة الوطنية عامة.

توسع السياسي على حساب الدعوي

ومنذ ذلك التاريخ أصبح المجال السياسي يتوسع شيئا فشيئا على حساب المجال الدعوي، ويقلص مع الأيام فاعليته وفواعله ومادته وموارده. لا بل إن الحركة كانت تضطر أمام ضعف تواجدها وخبرتها وإمكانياتها في المجال السياسي إلى أن تستعمل الفضاء الدعوي كمنبر لها للدعاية والاستقطاب والمواجهة. فتحولت منابر وفضاءات الدعوة الى منابر ومجالات للسياسة بتبريرات ترتكز على مفهوم الشمول، وعلى حرب الاقصاء التي تمارسها الدولة والتيارت الاخرى تجاهها، وأيضا على أن توضيف المجال المدني ومنظماته وفاعليه سنة متبعة من الجميع دولة ونظاما حاكما وتيارات معارضة وليس هناك أي معنى لأن نقبل بهذا الاستثناء الذي يريدون فرضه علينا .

توظيف السياسي للدعوي

لقد قاد ذلك الوعي الحركة إلى أن تنتبه إلى الفوائد التي يمكن أن تجنيها من استثمار المجال والفضاء الدعوي في صراعها مع السلطة ومع التيارات الأخرى، وأن تغفل في نفس الوقت على حجم الخسارة المتراكمة حتى على قوتها ذاتها من خلال ذلك التوظيف شبه المطلق للمجال الدعوي خدمة للسياسة. وبطبيعة الحال فإن ذلك الوعي كان أبعد ما يكون عن أن ينتبه الى الخطأ الاستراتيجي الفادح والمتمثل في تجريد المجتمع (الدعوي والمدني والثقافي والاجتماعي) من عناصر قوته الضرورية باعتبارها معادل القوة الحقيقي امام تغول المجال السياسي (مجال الدولة).

كان هناك حضور للاشكال، ولكن طغيان الوعي السياسي جعل الجواب عليه يبدو سهلا، و قد ردد الشيخ راشد بعد خروجه سنة 1988 من السجن كيف تم تناول هذا الاشكال في مؤتمر 1986، حيث كان الشيخ يعتبر أن الاشكال الرئيسي في البلاد إشكال سياسي، و أننا لا يمكن أن نتحدث عن أولوية دعوية ثقافية اجتماعية ما لم نزيل العقبة السياسية. ويعزز قوله بما حصل في الواقع من اندلاع المواجهة السياسية مع النظام و"الاستراتيجية المؤقتة" التي اعتمدها مؤتمر 86 لم يجف حبرها بعد.

ولكن المتتبع للأحداث يعلم أن مواجهة 1987 انطلقت شرارتها بتوظيف المجال الدعوي فيما سماه الشيخ وقتها "معركة المساجد".

التوظيف الذي قاد الى التجفيف

لقد أدى توظيف المجال الدعوي لمصلحة المجال السياسي، إلى أن يشن النظام عليه حرب "تجفيف" انطلقت مبكرا منذ سنة 81، وازدادت مع اشتداد الصراع ضراوة، ولم يعد ذلك المجال الواسع - الذي يمسح ما يمكن أن نطلق عليه الآن فضاء المجتمع المدني – الا "فضاء تاطيريا تنظيميا" مما زاد من حنق النظام عليه وقام تجاهه بحرب استئصال ساعدته عليه بعض فصائل التيارات الأخرى.

من هذه الزاوية يمكن لنا أن نعتبر أن أكبر خسارة في مواجهات الحركة مع النظام ولا سيما سنة 1991، هو أن الصراع في المجال السياسي قد ضرب بقوة أكبر مجال المجتمع المدني، بسبب النظام الشمولي الديكتاتوري التسلطي بلا شك، و لكن أيضا بسبب التوظيف السياسي والتنظيمي المباشر لمجال المجتمع المدني من الحركة. فكانت الخسارة فيه أعمق و أشد من المجال السياسي.

ضعف خبرة العمل المدني

لم تنشأ تقاليد عريقة لعمل اجتماعي مدني مستقل عن توظيف الدولة والأحزاب، كما لم ينشأ تقليد عريق لبناء مجتمع مدني يعمل بشكل ذاتي وبأدوات غير أدوات السياسة. وقد عملت مرحلة الصراع مع المستعمر ومرحلة إنشاء الدولة وفيما بعد الصراع معها على إنشاء تقاليد لكيفية استعمال المجتمع المدني لخدمتها في ذهول تام عن الاشكاليات الكبرى للدولة الحديثة وعن ضرورة قيام المجتمع بتحصين دفاعاته الذاتية وقدراته الرقابية من أجل جعل الدولة كـ"شر لا بد منه " خادمة له لا سيدا عليه.

انفصام الوعي والممارسة

بقدر ما كان وعي الحركة مصرا على أولوية الثقافي/الدعوي على السياسي، بقدر ما كانت الممارسة العملية لها تصر في المقابل على قلب المعادلة التي تستحيل واقعا الى أولوية السياسي على الدعوي.

ومنذ سنة 1981 في كل تخطيط تثبيت وتأكيد على أولوية الدعوي، وفي كل تقييم تأكيد وتثبيت على انحراف الممارسة باتجاه قلب المعادلة.

كان الوعي يحاول الاقتراب من أصل المشكل عند التفكير والحوار، بما يعني إعادة التفكير في مفهومي الشمولية والوحدة، و لكنه كان ينتكس سريعا بفعل ثقل حمولة المفهومين كما ثبتا في الوعي، مضافا اليهما تحديات الصراع الخارجي التي تؤجل كل تفكير جذري بدعوى "إطفاء الحريق".

ولم يشفع طول المحنة الأخيرة - عشرون عاما بالتمام والكمال - في إحداث المراجعات المطلوبة وبناء استراتيجيات جديدة. ومن ثم فليس غريبا ما وجدنا أنفسنا عليه من استمرار نفس الاشكالية بعد الثورة وهو ما اعترف به الشيخ راشد نفسه.

قصور في إدراك التحولات في المجتمع والدولة

ورغم أن الثورة بما أتاحته من حرية وما جاءت به من دستور فسح للحرية مجالا أوسع، ووضع شروطا للممارسة تقضي بوضع تمايز واستقلالية بين الفضاء السياسي/الحزبي باعتباره فضاء التنافس على الحكم وتسيير الدولة، وبين الفضاء المدني باعتباره فضاء التنمية الاجتماعية وحماية المجتمع من تغول الدولة. رغم ذلك فإن هذا المعطى الجديد لم يؤخذ بعين الاعتبار، ولم يدخل في وعي الحركة باعتباره أكبر من أن يكون ضوابط شكلية وإنما كان عصارة تجربة الانسانية في ما يخص العلاقة بين المجتمع والدولة.

لم تلاحظ الحركة أيضا التغيير الاجتماعي الذي طرأ على المجتمع. إذ بعد أن كان "مشروع الحركة" بمضمونه ورمزياته يكاد ينحصر فيها وفي أبناءها، إذ به رغم الجهود الكبرى التي بذلت في تجفيفه يتحول إلى حالة اجتماعية متنامية وسط فئات المجتمع المختلفة ولم يعد هناك اي امكانية ولا معنى لاحتكاره.

مما سبق يتبين لنا أن الحركة تأخرت كثيرا في إدارك المعضلة التي عانتها في الاصرار على الجمع بين فضائين لا يجتمعان تحت سقف تنظيمي واحد. لا بل إن الفضائين وخاصة الفضاء المجتمعي فضاءات. كما ان سيطرة المنهجية السياسية التقليدية لا زالت تعسر لحد الآن وربما حتى بعد المؤتمر القادم إمكانية "فك الارتباط " بين مجالات يقتضي حسن الأداء فيها "التمايز " و"الاستقلالية" وليس "التخصص" فقط كما يتداول .

سطوة العقل السياسي

إن العقل السياسي التقليدي - الذي يحكم الحركة الآن - يصعب عليه التفريط في "المجال المجتمعي" كقوة للتوظيف في الصراع السياسي، وهو بذلك يساهم في إضعاف "المجال المجتمعي" ويجرد المجتمع من "دفاعاته "، كما يتنكب عن القيام بالدور المطلوب في "إصلاح السياسة" الذي يتجاوز مجرد استلام الحكم.

إن المتابع بدقة للمسكوت عنه غالبا أو المصرح به أحيانا من الحوار حول "تصريف" أو "إدارة" المشروع، يدرك "مخاتلات" العقل السياسي الواعية واللاواعية في تناول الموضوع . بل يدرك كيف أن العقل السياسي يقود حتى رجال "الدعوة " في دفاعهم ومناوراتهم .

كيف يمكن تقديم مقاربة واقعية - دون أن تكون مستسلمة - لتصور عملي لمشروعنا الحضاري في أفق الاستنتاجات والتحولات والإكراهات التي ذكرنا ؟

دعوة إلى تفرق محمود

إن المقاربة التي أقترحها إذ تتمسك بكل ما أثرته من ملاحظات نقدية، فإنها تدرك أنها تبني على واقع موجود هو نتيجة مسار نصف قرن، اختلطت فيه الوقائع المادية بالأحوال النفسية والاجتماعية، مشكلة بنى متداخلة ومتشابكة، بعضها يحكم الوعي وبعضها يتحكم في اللاوعي، بعضها تحول إلى مطلقات ومسلمات عقلية، وبعضها ترسخ في المشاعر والنفوس عقائد وقناعات.

لقد نشأنا في بيئة وتربينا على ثقافة تعتبر "التفرق" تشتتا وذهابا بالريح، ولم نقبل ونستسغ وجهه الإيجابي الذي يعني التخلص من التزاحم والهيمنة، وإحكام التوزع على المجالات والفضاءات، استجابة لمنازع الأفراد وميولاتهم، ولما تتطلبة الفضاءات من التفرغ والتخصص، وابتعادا عن الازدواجية التي تفرضها إدارة المجالات بمؤسسة واحدة وأحيانا بشخص واحد.

لا زلت أذكر رد فعل والدتي عندما تسمع أن "دار فلان قسموا"، يعني أن العائلة الممتدة الكبيرة قررت الإنقسام إلى عائلات صغرى. وعادة ما يتم ذلك في لحظات احتكاك بين أفرادها، يقف الناس عنده كثيرا وعند استتباعاته، مع أن ذلك مجرد القطرة التي أفاضت الكأس. يقف الناس عند الأسباب الصغرى والمباشرة، ذاهلين عن الأسباب الكبرى والبنيوية التي هي سنة اجتماعية تجعل من التفرق الطريق الاوفق من أجل النمو السليم والحركة الطليقة والفعل المثمر .

وغني عن التاكيد أن هناك فرقا جليا بين "الانقسام" الذي يتم اختيارا ووعيا، وبين الانقسام الذي تفرضه الضرورة بعدما يشتد الخلاف وتفعل "حزازات النفوس" فعلها، والتي لا تذهب آثارها بسهولة بل قد تتطلب عمرا يضيع معه من الوقت والواجب ما يضيع.

وقديما قال الشاعر العربي :

وقد ينبت الخطي في غير أرضه ****** و تبقى حزازات النفوس كما هي

الخروج من أسر الشمولية والإزدواجية

ترى المقاربة أن الأهداف الكبرى التي انطلق بها المشروع كمطلقات بل وكأحلام، حتمت ربما "الشمولية" واستتباعاتها التنظيمية في البداية، وهي التي تدعو الآن الى "التفرق" من أجل إنجاز مسدد في مجالات تختلف وسائل وطرائق ومناهج العمل فيها باختلاف طبيعتها وفضاءاتها ومنتجاتها.

وهي تنحو منحى تفاؤليا، حيث تستنهض في الكيان أحلامه الأولى، من أجل إعادة صياغتها والعمل على تحقيقها وفق رؤية جديدة. تأخذ بعين الاعتبار التجربة وما خلفته من دروس، ومطالب المستقبل وما تدعو إليه من التجاوز .

لقد نشأت الحركة الاسلامية تيارا اجتماعيا على غير مثال سابق، بسبب أن قيادتها كانت شابة عصامية، نما تكوينها من خلال التجربة، ولم تتلق توجيها مباشرا وقاصدا من زعامات فكرية أواجتماعية أو سياسية. وأخذت على عاتقها تكوين نفسها وتكوين حركتها! وهو ما يفسر توزع اهتماماتها، وتقلب فكرها ومناهج عملها. وهو أيضا ما يفسر تنوع فكرها، وتعدد مناهج عملها، بعد أن استقر فهم ووعي قياداتها ونخبتها، وانقسم على رؤى وخيارات متنوعة.

ولقد كانت مسلمتا الشمول والوحدة قناعتين مترسختين، فلم تسمحا للجسم بأن يفكر في اختراقهما، رغم المحاولة الجريئة المبكرة على يد احميدة النيفر ومجموعته.

مجالات الفعل الحضاري الثلاث

وإذ نعتبر أن مجالات التغيير الحضاري الكبرى تنقسم إلى ثلاث مجالات رئيسية: الفكري والاجتماعي والسياسي، بقدر ما بينها من تداخل تفرضه حاجاتها المتبادلة وفروعها المشتركة ووضائفها المتداخلة، فإن الفعل الحضاري فيها بل والواقعي والعملي يقتضي تمايزا واستقلالية.

أثر عن العلامة الشيعي محمد مهدي شمس الدين قولته التي اشتهرت فيما بعد : للحكومات ضروراتها وللشعوب خياراتها. ونحن نقول: إن مجال السياسة والدولة هو مجال الضرورة، أما المجال المجتمعي فهو مجال الخيارات والاختيارات ، وأما المجال الفكري فهو مجال الحرية والإبداع.

مسؤوليتنا نحو الأجيال القادمة

والحركة الاسلامية التي بدأت مجموعة ثم تنظيما ثم تيارا، تحتوي على زعامات ورموزا ونخبا ومنتمين لهذه المجالات الثلاث. ويمكن لها أن تتهيكل مجددا وفق توزع مجالي، وينفر لكل مجال أهله.

ولا شك أن في المجتمع وخاصة الأجيال الجديدة من سيتعلق اهتمامه وهمته بواحد من تلك المجالات، من أجل تحقيق التواصل بين الأجيال، وإتاحة الفرصة لأجيال المستقبل أن تبني على مثال وتقرأ من تجربة وتتلقى عن زعامات ورموز. والحركة الاسلامية بهذا الوجه التعددي لا تحصر المرجعية الاسلامية فيها وإنما هي فقط خيار ضمن المدرسة الاسلامية الى جانب مدارس التغيير الحضاري الأخرى : الليبرالي والقومي واليساري.

نحو مؤتمر القرارات الحضارية

بدا لي أن حركة النهضة بإمكانها أن تجعل من مؤتمرها العاشر مؤتمر القرارات الحضارية، وتعلن فيه أنها بهذا المؤتمر تنهي مرحلة من مراحل عمرها وتجربتها باجتهاداتها ومجاهداتها. تفتخر بما أنجزت، ولا تتتعتع في الإعلان عما أخفقت فيه.

لقد كانت نتاج حقبة تاريخية وسقف ثقافي عام، أضافت فيه لوطنها وأمتها مع غيرها، وانتكست فيه مع المنتكسين ولها ولغيرها أجر الاجتهاد. وللتاريخ وجهان لا ينفصلان : وجه الجهاد والمجاهدة والاجتهاد، ووجه الانتكاس والهزيمة والتخلف.

وجه ما يحتفظ به ويبنى عليه، ووجه ما يتخلى عنه ويترك للعبرة.

تعلن الحركة نهاية مرحلة الشمولية والازدواجية لتدخل مرحلة جديدة تساوقا مع تحول الوطن دولة ومجتمعا. وعلى ابنائها أن يختاروا مجال فعلهم المباشر ومجال عطائهم لدينهم ومجتمعهم بما ينسجم مع طموحاتهم وميولاتهم.

بهذا يكون المؤتمر العاشر ثورة حقيقية في عالم العروبة و الاسلام، تقدم به تونس للعالم نموذجا جديدا في التجديد والتجدد، وفي القدرة على الانتقال النوعي والإضافة الحضارية. تتجدد به حركة دون أن تلعن ماضيها أوتتنكر له قولا أو فعلا، و دون أن يأكل بعضها حق بعض، ودون أن يفتئت بعضها على بعض. ويبقى التاريخ المشترك ملكا للجميع ومصدر إلهام وعبرة للجميع.

حرية واستقلالية المجالات الثلاث

تفترق أجنحة الحركة الثلاث من أجل نفس الهدف الحضاري القائم على الإصلاح : إصلاح الفكرة وإصلاح المجتمع وإصلاح السياسة ،من أجل بناء الفكرة والمجتمع والدولة. افتراق حقيقي قائم على الاستقلالية التامة في الإدارة و التوجيه لا تشوبه أي شائبة ازدواج أوهيمنة من أي نوع كانت. استقلالية تعطي للفكرة حريتها الكاملة كشرط للإنتاج والإبداع، وتعطي للمجتمع استقلاليته الضرورية عن هيمنة الدولة، كشرط لبناء قوى اجتماعية فاعلة بعيدة عن الوصاية والتوظيف وضامنة لمواجهة "ضرورات" الدولة ومنتجة للبدائل والخيارات.

يبدو شرط الاستقلالية موجه أساسا إلى علاقة المجالين الفكري والاجتماعي بالسياسي (الدولة)، وهذا لا يعني تبخيسا للمجال السياسي، وإنما هو تقرير حقيقة واقعية لطبيعة الهيمنة التي تقود الممارسة السياسية عموما وممارسة الدولة خصوصا. والمهمة المطروحة على أبناء الحركة الذين سيتفرغون للممارسة السياسية حزبا ودولة، لا تقل أهمية عن غيرها من المهام المطروحة على الفاعلين في المجال الفكري والاجتماعي، إنها إصلاح السياسة مضمونا ومنهجا، فكرا وممارسة، أحزابا و دولة. وهي أحد أضلاع مثلث التغيير الحضاري الذي ندعو إليه.

نستطيع القول أن الأمة في مسيرتها لم تعدم محاولات ناجحة في مجالي التجديد الفكري والاصلاح الاجتماعي. ولكن المحاولات التي طالت الاصلاح السياسي كانت كلها أوجلها قاصرة ومحدودة. والتحديات المطروحة اليوم لأصلاح السياسة والدولة أكثر تعقيدا، ولن تفلح فيها مجرد الدوافع الأخلاقية والنوايا الطيبة، ذلك انها تحتاج عقولا جبارة تتجاوز إدارة الشأن المباشر إلى القدرة على استيعاب نظام التحكم والسيطرة العالمي والتعامل الفعال معه، والكشف عن الثقوب السوداء في طبيعة الدولة الحديثة وأليات اشتغالها وممكنات تغييرها أو تعديلها.

رموز وزعامات المجالات الثلاث

تمتلك الحركة ثلاث رموز وزعامات كبرى من مؤسسيها يمكن أن يقودوا هذه المجالات الثلاث، وقدرات ومؤهلات وتجربة كل منهم مناسبة للمجال الذي ستتزعمه. ورغم أن الحركة تمتلك نخبة قيادية واكبت تأسيسها وتعزز عددها أثناء مسيرتها، إلا أن الرمزية والزعامة التقت حول الرجال الثلاث : الشيخ راشد و الشيخ عبد الفتاح و الدكتور (الشيخ) احميدة النيفر.

الدكتور احميدة النيفر والريادة الفكرية

ومعلوم أن افتراق الدكتور احميدة المبكر سببه العميق فكري. فقد أدرك مبكرا أهمية وأولوية المسألة الفكرية. كما أن انتباهه المبكر للمأزق الفكري الذي كانت تعانيه الحركة هو الذي جعله يقرر "الإفتراق" المبكر، برغم ما أحيط بذلك الافتراق من تجاذبات واحتكاكات تعتبر في الجوهر عرضية وجانبية. لم ينجز الدكتور احميدة ومجموعته شيئا كثيرا في الرؤية الفكرية، ولكنهم لعبوا دورا كبيرا إلى بداية التسعينات في الضغط على الحركة من خارجها التنظيمي بتركيزهم على القضايا الفكرية وانعكاساتها على السياسة والمجتمع. وقد استوعبت الحركة بطريقتها كثيرا من تساؤلاتهم وأفكارهم وجرأتهم من خلال "الاستعمال الإيديولوجي" لها مع التحولات السياسية التي مرت بها.

أهملت الحركة المسألة الفكرية عمليا رغم الإلحاح على أهميتها في التقييمات والنقاشات، ولم تعدم رموزا فكرية، لكنها استهلكت في الوظيفة والتوظيف التنظيمي والسياسي، ولم تستطع بناء محاضن ولا توفير فضاءات لذلك. وظلت جهود عبد المجيد النجار ومحسن التومي وبن عيسى الدمني وحسن بن حسن ومحمد ضيف الله وجمال دراويل ومهدي مبروك وعبد الحق الزموري وغيرهم كثير يتيمة ومبعثرة .

إن رمزية الدكتور احميدة النيفر التاريخية والفكرية، وإن كوكبة المفكرين ممن ذكرت وغيرهم قادرة على بناء مؤسسة أو مؤسسات فكرية تكون منبرا للتفكير والإبداع وجسر حوار مع رجال الفكر عامة داخل تونس وخارجها . ولأنها مؤسسة فكر فإنها تعمل بوسائل إنتاج المعنى وبمناهجه وأساليبه، قاعدتها وعمودها الفقري الحرية وهدفها النهوض الحضاري، تحفر في اللاوعي الفردي والجمعي، وتبني للإجيال القادمة مادة وعي حضاري، وتتحاور مع الواقع الاجتماعي والسياسي تدبرا و تسديدا.

الشيخ عبد الفتاح مورو .. رجل الاصلاح الاجتماعي والوطني

لعب الشيخ عبد الفتاح أدوارا سياسية هامة وأحيانا محورية في تاريخ الحركة. ولكن شخصية رجل الاصلاح الاجتماعي تضل أقرب إليه وأنسب لشخصيته. لقد فقدت تونس منذ الاستقلال الزعامات الاصلاحية الكبرى، واستمر وجود العاشورين باهتا، فالشمولية البورقيبية وشمولية الدولة التي أسسها لا تقبل ذلك.

تجتمع في شخصية الشيخ عبد الفتاح رمزية الاستمرارية لإرث الإصلاح الاجتماعي التونسي، وإرث المدرسة الزيتونية والمدرسة الخلدونية، وأيضا إرث الحركة الاسلامية التي شارك في تأسيسها وصبغها بشخصيته وصبغته بشخصيتها. يمكن أن تتوفر في الشيخ عبد الفتاح إن هو تمحض لهذه المهمة صفة "المرجعية الوطنية" بالمعنى الاجتماعي العام، فليس هناك من يمكن أن يعيد لمؤسسة الزيتونة هيبتها الحضارية والاجتماعية والدينية في القلب منها غير الشيخ عبد الفتاح، تلك المؤسسة التي تفتقدها تونس بل وتفتقدها الأمة العربية والاسلامية. فلو "طلق" الشيخ عبد الفتاح السياسة وتفرغ لمهمة الإصلاح الاجتماعي، وأحاطت به نخبة الإصلاح والدعوة الفاعلة والواعية، وبنوا مؤسسة للإصلاح الاجتماعي أو مؤسسات متنوعة فإنهم سيملؤون فراغا رهيبا يعشش فيه المتطفلون.

لو أعلن الشيخ عبد الفتاح تفرغه واستقلاليته، واستقلالية المؤسسات التي سينشؤها ومارس ذلك ومن معه بشفافية، فسيصدقه التونسيون وسيجد السند المادي والمعنوي منهم جميعا. لو التقى حول الشيخ رموز المدرسة الاجتماعية كالفاضل البلدي والحبيب اللوز واحمد الابيض ونورالدين الخادمي ورموز الجامعة الزيتونية وغيرهم كثير من أجل التفرغ للإصلاح الاجتماعي تاركين السياسة وشانها واساليبها، فإن جهودهم ستثمر بالتفاعل والتشارك مع غيرهم قوة إثمار وتحصين وفاعلية للمجتمع لا تعوضها إنجازات الدولة مهما كانت إيجابية وضرورية.

الشيخ راشد الغنوشي ... الزعامة السياسية

اختار الشيخ راشد كما أسلفنا الزعامة السياسية رغم أن تجربته في حقل الدعوة والفكر أهلته للزعامة فيهما ايضا. إن طبيعة شخصيته الجريئة دفعته لركوب المركب الصعب، مركب الإصلاح في المجال الذي منيت فيه محاولات الإصلاح بتعثرات إن لم نقل هزائم متكررة في تاريخ الأمة. وهو اليوم يقود الحركة من ورائه لاقتحام عالم "التنين – اللفياتان"، مسلحا بثقل زعامته، وما استجمع من قوة، وما بنى من علاقات، وما استصفى من ولاءات، وما عقد من صفقات. وهو يعلم أنه والحركة التي يقودها قد دخلوا تجربة بزاد محدود من النظر والتجربة، ولكن الوقت لا يسعفه وضغط السياسة اليومي لا يمهله.

وكيفما كان الحال فالشيخ راشد ومجموعة مهمة من نخبة الحركة قد اختاروا طريقهم ومجال عملهم وابتلائهم، وسواء اتفقوا أوتدافعوا فالأمانة بين أيديهم ثقيلة تنوء بحملها الشم الرواسي، برغم ما يترائى من سراب التموقع والمناصب.

وبرغم كل ما ذكرت فلا أنكر أن من تقدم للعمل في هذا المجال إفراز طبيعي لعمل الحركة ونتيجة اختياراتها، والأمل معقود عليهم لوضع نقاط مضيئة في طريق محفوف بالمخاطر.

دعوة للحوار

هذه الأفكار التي عرضتها أعلاه بتركيز شديد، تخمرت في ذهني مدة تزيد عن الثلاثة أشهر، وعرضتها جزئيا أو كليا على بعض الإخوة، وقال لي الشيخ راشد أنها أفكار ثورية عندما عرضت عليه بعضها - ربما يقصد غير واقعية تلطيفا وأدبا في الحوار-، واستمع إليها الشيخ عبد الفتاح وخاصة في الدور الذي يخصه وتفاعل معها، ورأى فيها الأخ الفاضل البلدي شيئا من رأي الشيخ راشد ولكنه دعاني إلى كتابة رأيي ونشره للحوار.

وأنا إذ أقدر ملاحظاتهم وملاحظات غيرهم، فإنني أعرض هذه الأفكار للحوار والمناقشة. ولربما وجد فيها الإخوة ما يصلح للبناء عليه، ولربما كانت مواطن القصور فيها حافزا للتفكير السليم والأنسب.

وإن بدت أنها ليست أكثر من حلم، فليس ذلك بقليل، فلعل أحلامنا الجميلة تتحول حقائق عند اجيالنا اللاحقة.

غير أنني أكتب ولي بصيص أمل أن تجنح الحركة وقادتها وعقلاؤها وحكماؤها للإختيار الواعي عوضا عن الاضطرار المرغم، وأن تتغلب المسؤولية الحضارية عن مطالب اللحظة، و أن ترتجى مغانم الأمة عوضا عن المكاسب الظرفية.

و الله من وراء القصد و هو الهادي الى سواء السبيل