search

الانتخابات الرئاسية بتونس ... هل بدأ العرض المسرحي مبكرا ؟

كعادتي وصلت لمكتبي مبكرا حوالي الساعة السابعة. وما كدت أركن السيارة في مربضها، حتى فوجئت بجاري العزيز صبري نجم (Durim ylli) رحمه الله واقفا أمامي. لم يكن من عادته الاستيقاظ باكرا وموعد قهوتنا الصباحية حوالي التاسعة. تبادلنا التحية والسؤال عن الأحوال ثم قال لي سأزف إليك خبرا سعيدا : إن ألفريد (حماه) سيكون رئيس ألبانيا القادم. هنأته بالخبر وعبرت له عن فرحتي وافترقنا على موعد القهوة المعتاد مع الأصحاب. فاجأني الخبر ، فموعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي بعد حوالي سنتين والوقت لا زال مبكرا في الخوض في الموضوع، والسيد ألفريد مويسيو (Alfred Moisiu) الجنرال المتقاعد ونائب وزير الدفاع السابق ليس له انتماء سياسي ولا نشاط سياسي، صحيح أنه كان من رعاة أول انتخابات ديمقراطية بحكم منصبه في وزارة الدفاع ولعب دورا في ضمان سلامة العملية الانتخابية، ولكن دوره انتهى تقريبا هناك وان استمر في منصبه في الحكومة الديمقراطية الأولى. ومع تغيرها توارى عن الأنظار إلا من ترؤسه لفرع جمعية أورو أتلانتيك.

توقف الحديث عن الموضوع بيني وبين جاري عند تلك الكلمات الصباحية، واختفى من "اجندات" دردشاتنا اليومية التي لا تخلو من "النميمة السياسية".

مع افتتاح سنة 2002 وهي السنة التي تنتهي في منتصفها ولاية الرئيس رجب ميداني (Rexhep Majdani)، بدأ الحديث في مقاهي النخبة الألبانية وعلى أعمدة الصحافة عن الرئيس القادم،وانطلق "البازار السياسي" وتصاعدت شيئا فشيئا وتيرة "العروض" وبدأت تظهر رؤوس وتختفي أخرى، في حركة أشبه بمسرحيات الدمى المتحركة. بدأت الاسماء في ساحة الحزب الاشتراكي الحزب الحاكم، فهو أولى بالترشيح بحسب حجمه المؤثر وإن لم يكن الحاسم في البرلمان، حيث يقتضي الترشح ضمان الحصول على الثلثين وهو ما لا يتوفر عليه الحزب الحاكم حيث ينقصه حوالي 10 نواب.

لم يكن الحزب الديمقراطي المعارض بعيدا عن حلم الظفر بالرئاسة برغم حجمه المحدود، وذلك من خلال معارضته الحاسمة لنتائج الانتخابات الماضية، ومحاولة فرض المقايضة بمنصب الرئاسة لتجاوز "البلوكاج السياسي". لذلك انخرط هو أيضا في ساحة "العروض، وتداولت المقاهي والاعلام أسماء "شحصيات ديمقراطية من قلب الحزب أو من أطرافه.

و مع كل شهر ينقضي وكل يوم يقترب ينشط المسرح وترتفع وتيرة حركته وتتخذ العروض شكلا أكثر جدية. وبعد تجاوز "الاسماء السياسية" وتهيئة الساحة بما يفيد استبعاد توفير فرص للوجوه السياسية التقليدية والحزبية، بدأت تظهر أسماء من الفضاء القضائي والفضاء الديبلوماسي والفضاء النسوي وحتى الفضاء الشبابي وبعضها أسماء وازنة جدا.

كتب الصحفي الشهير ميرو بازي (Mero Baze) بعد أن طرح في البازار اسم السيد جزايير زاجانيوري (Zhazair Zaganjori) القاضي في المحكمة الدستورية :" رجل وازن ومحترم و ذو كفاءة ولكنه اسم من عشرات الأاسماء الذين تم تقديمهم فقط للعرض المسرحي ". وهذا ما حصل بالضبط له ولغيره من الاسماء. لكن العرض المسرحي يجب أن يكون متقنا وأن يقنعك بأن ما يحصل هو الحقيقة وليس تمثيلا. لقد تقدم ترشح السيد جزايير إلى المرحلة الرسمية في البرلمان على أن يتم الانطلاق في دورات اختياره بحسب ما ينص عليه الدستور. ولكنه هوى بقدرة قادر كأن لم يكن وصح ما كتبه الصحفي الخبير بكواليس السياسة الألبانية.  

ومع كل الحركية والجلبة والصياح في البازار والأسماء الصاعدة والنازلة، لا ذكر للسيد ألفريد لا من قريب ولا من بعيد، حتى ظهر "فجاة" اسمه قبل 3 أيام من انتهاء تاريخ اختيار الرئيس حسب الدستور. أعلن عن اسمه بعد ما قدم المسرح كل مقومات العرض السياسي المحكم، وتقدم السيد ألفريد ليكون خاتمته الجميلة التي خطفت الاضواء وجعلت الجمهور يغرق في هيستيريا تصفيق وتهليل.

ذكرني بألبانيا ما يحدث في تونس هذه الأيام من افتتاح "البازار السياسي" للانتخابات الرئاسية، وانطلاق "العرض" أو مرحلة "الإحماء" من أجل توفير شروط "موضوعية" لعملية "اختيار" يجب أن تنال في الخاتمة "التهليل والتصفيق الحار".

تبدو تونس "حقل تجارب" لاستنبات نبتة من النباتات المهجنة والمخصبة غربيا في مناطق أوروبا الشرقية "الشيوعية سابقا"، وتحت "حراسة" القوة الصلبة التي لم تفتأ تتمدد منذ الثورة في السيطرة على مفاصل الدولة العميقة - بعد أن كانت أحد عناصرها فقط - مع اختفاء الحزب الحاكم الذي كان قيما على ذلك.

فهل ستكتفي القوة الصلبة بموقف الراعي والقيم على استنبات هذا الخيار، أم أنها ستعمد إلى فرض نفسها كخيار مؤهل لحكم البلاد والتحكم فيها، أسوة بالجار الغربي أو بالشرقي الذي لعب دورا في انقلاب 25 جويلية (يوليو) وربطته به علاقات واتفاقيات لا يمكن تجاوزها بسهولة. ومؤطرة ضمن الاستراتيجية الامريكية في المنطقة؟

ليس ما أذكره قدرا مقدرا ... ولكن تجاهله أو التهوين منه هو الذي يجعله كذلك ...