بداية، لا أبخس الجهود التي بذلت في التصدي للانقلاب. ولكنني أتحدث عما بدا لي من عدم كفايتها، وقصورها عن البلوغ الى مستوى الفعل القاصد، والمعبأ بقوة الفكرة، وفرادة لغتها، وجاذبية شعاراتها وجملها السياسية، وجاهزية بديلها وتماسكه، وقدرته على تقديم الأجوبة المباشرة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجيوستراتيجية... كل ذلك يجب ان تحمله رموز وقيادات قادرة على ان تقنع به، وهذا يعني ان تكون تلك الرموز والقيادات تملك من المواصفات ما يجعلها قادرة على ان تقنع الشعب ودوائر النفوذ انها تملك كل عناصر القوة والاقناع والتأثير والقدرة على إدارة الصراع بذكاء وبجرأة أيضا.
منذ انطلاق حراك مقاومة الانقلاب كان عنصر "الإعاقة" سببه استيلاء الرغبة في البحث عن المشترك، والسعي من أجل تجاوز التشتت التي عليه جبهة المعارضة، وهو هدف نبيل ومهم لكنه لا يأتي في سلم الأولويات أمام فراغ المضمون أي البديل عن 24 و25 . كان التعويل على التكتيك طاغيا حتى عند استدعاء القضايا المضمونية التي ركزت أساسا على ما يتصور انه قادر على تجسير الفجوة، ولم تقترب من قضايا الرؤية الاستراتيجية والبديل المجتمعي إلا بشكل جزئي وظاهري في الغالب.
امتلكت نواة موطنون ضد الانقلاب مؤهلات الاشتغال العميق على جبهة الرؤية والفكرة والبديل والبرنامج، خاصة من خلال الرباعي : حبيب بوعجيلة والأمين البوعزيزي وأحمد غيلوفي وزهيرإسماعيل. كان يمكن لو صبروا قليلا على جبهة بناء سردية متماسكة، ذات بعد فلسفي سياسي عميق، ولم ينجروا إلى ساحة التكتيك السياسي، الذي على أهميته فإنه غير قادر على تقديم ما ينقص الثورة ... لقد ولدت "الثورة" قبل ولادة "سرديتها"، وكان من الضروري أن يقع التدارك حتى تستوي على سوقها ثورة في العقول والقلوب . ولو استمسك الرباعي بالاشتغال على هذه الجبهة، وصبروا وصابروا عليها، لأمكن لهم أن يجروا إلى ساحتهم طاقات كثيرة، ولضخوا في الساحة منسوب حوار عميق وضروري، سيفيض على ساحة الفعل عمقا وسدادا في الممارسة، وتحشيدا نوعيا حول المقاومة، ولأمدوا الساحة بحيوية نضالية نوعية، كانت ستثري الموارد البشرية للمقاومة، باجتذاب القوى الشبابية التي لا تستهويها الرتابة، وإنما تشحن بالحلم الجميل والمعاني العالية ، ولقاموا بدور تاريخي استثنائي، تخرج به النخبة التونسية من طبيعتها التي تولي التكتيك السياسي أولوية، ولا تصبر على بناء الأفكار والسرديات والبدائل.
لقد حاول الرباعي بعد أشهر من تكوين جبهة الخلاص استدراك الخلل، ولكن مجريات الساحة لم تساعدهم على ذلك، وحرصهم على عدم إرباك الجبهة منعهم من ذلك.
كل ما قلته اعلاه ليس بدعا من القول. فسي حبيب بوعجيلة تحدث عن ذلك في نص نشره منذ يومين على صفحته، وسي أحمد غيلوفي أكد على ذلك في حوار جميل معه جمعني به مع ثلة من الأصحاب المشتركين، و سي الأمين يسعى دائما إلى تعميق نصوصه وحواراته وحتى ردوده وتعليقاته المقتضبة في الفضاء الأزرق، وأما سي زهير فنصوصه كلها تقريبا تجنح الى "القول الثقيل" المؤسس. كل ذلك جميل لكنني أطمح إلى أن يتجاوز ذلك ما يمكن أن نطلق عليه "لغة المثقف" إلى أن يتحول إلى خطة عمل من أجل "ثورة ثقافية" إذ لا معنى لأي ثورة بدونها. ثورة تنعكس على سائر مضامين البدائل فتكسوها جدة في المعنى والمبنى وحيوية في الأطروحات والبرامج وتماسكا في المناويل والخطط.
المتامل بعمق في مضمون خطاب قوى الثورة خلال العشر الماضيات وحتى بعد الانقلاب، يلاحظ أن حجم التجديد فيه محدود، وأنه بقي يمتح من مخلفات خطاب ما قبل الثورة.... ولن يبنى جديد بخطاب قديم ...
كلنا متفقون أن أخطاء وجرائر الانقلاب وحدها لا تعطي فرصة ولا شرعية لوصول معارضته للحكم، ما لم يتوفر فيها ما يجعلها بديلا عنه، وخاصة من جهة تقديم البديل المضموني المتكامل، الذي يبدأ من اجتراح سردية قوية وجاذبة، وبديل شامل ومتماسك، ورموز تملك من الجدة والفرادة والجاذبية ما يجعلها أكثر تاثيرا وإقناعا.
يسير الانقلاب نحو حتفه بما كسبت يداه ، ولكن دون أن يظهر في الأفق ما يطمئن على أن قوى الثورة ستأخذ بزمام الامور ... فهل هناك أمل للتدارك؟
تاريخ أول نشر 10\4\2023