مداخلة قدمها الباحث في الندوة التي عقدها مركز دراسات الاسلام والشؤون العالمية بجامعة صباح زعيم باسطنبول الذي يديره الدكتور سامي العريان بالتعاون مع جامعة حمد بن خليفة بالدوحة ايام 12 و14 فيفري 2022، بعنوان: الرؤية السياسية في فكر الحركة ورئيسها .... أو "الشيخ راشد الغنوشي ومدرسة النهضة"
الملخص
يمكن أن نعتبر حركة النهضة التونسية مدرسة متميزة في حركات الإصلاح السياسي والاجتماعي التي تعاقبت على العالم العربي منذ أزيد من قرن.
تتحدد المدرسة الإصلاحية بحقل الإمكان المنفتح انطلاقا من اختياراتها الفكرية الأساسية وبالقوة التوجيهية العملية لهذه الاختيارات.
تتميز حركة النهضة باختيارات أساسية ذات قدرة إنتاجية وتوجيهية معتبرة: أولها تأويل للمرجعية الإسلامية ينسب التعبير عن الحقيقة ويثمن قيم النجاعة والنجاح، ثاني هذه الاختيارات اتخاذ الحرية والديمقراطية والتحديث النقدي مداخل للعمل السياسي والإصلاح الاجتماعي، ثالثها روح نقدية وقدرة عالية على التعلم من أخطائها ومسارها، من الامتحانات التي مرت بها الديمقراطيات العريقة، من تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم في العقود الأخيرة ومن انكسارات الزمن السياسي العربي، وأما آخر هذه الاختيارات فالحرص على امتلاك قدرة التطور السياسي والاستجابة للضرورات الوظيفية لمختلف المراحل التي مرت بها.
هذه الخيارات مجتمعة ومختلف أوجه التبادل بينها هي ما صنع خصوصية حركة النهضة كمدرسة في العمل الإصلاحي السياسي، وقد ساهم مؤسسها ورئيسها الأستاذ راشد الغنوشي بقسط وافر في تحديدها وفي بناء قدرة الحركة على التطور السياسي خاصة وأنه جمع بين صفة المفكر والمناضل من أجل الحرية لأزيد من خمسين سنة.
التقديم
بعد خمسين سنة من انبعاثها، وأزيد من أربعين عاما من العمل السياسي المحترف يمكننا القول بان حركة النهضة التونسية نجحت في بناء مدرسة متميزة في العمل الإصلاحي والأداء السياسي. المدرسة الإصلاحية لا تتحدد بتفاصيل الأداء اليومي على أهميتها وإنما تتحدد بالقدرة الإنتاجية للاختيارات الأساسية الكلية وقوتها التوجيهية نحو النجاح، بالمحركات العقلية والمعرفية، بمنابع الإمكان والقدرة وأسباب التجدد.
هل يمكننا اليوم بعد هذا الرصيد من التجربة أن نجازف بمحاولة تمييز قسمات وملامح هذه المدرسة وإنارة أسسها وأركانها وتقعيد منهجها في الإصلاح والتغيير؟ هذا ما تحاول هذه الورقة الإسهام فيه.
لقد مثلت حركة النهضة داخل مشهد حركات التغيير والإصلاح في العالمين العربي والإسلامي قصة من القصص القليلة للأداء السياسي المجدد، المبتكر القادر على التفكير خارج الصندوق، الواعد بآفاق كبيرة والمجتهد في امتلاك واستجماع أسباب النجاح، هذا التميز النسبي الذي لا يزال تحت الاختبار يعود إلى أربعة عوامل: أولها اختيارات فكرية أساسية توجه نحو النجاح والفاعلية وتعتبر الأفعال بمآلاتها، ثانيها امتلاك مفاتيح كبرى للوعي التاريخي أي لفهم العصر ومسالك التأثير فيه، ثالث هذه العوامل القدرة على التعلم الدائم، وآخرها القدرة على المواكبة المعقولة للاحتياجات الوظيفية والاستراتيجية للمراحل السياسية التي مرت بها وخاصة لمرحلة ما بعد الثورة، وقد لعب مؤسسها ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي دورا رياديا في كل ذلك.
حين نقول أن الشيخ راشد الغنوشي أسهم بقسط وافر في تحديد قسمات النهضة كمدرسة في العمل الإصلاحي والسياسي فليس معنى ذلك إرجاع كل إنجازاتها على مدى العقود الماضية إليه كما قد يتوهم البعض، فالنهضة بنيت بآلاف الأيدي ومئات العقول، ولكن معناه أن الغنوشي أسهم بقسط وافر في بناء اختيارات كلية ذات قدرة إنتاجية عالية، في صناعة المحركات العقلية ومنابع القدرة والإمكان لحركة النهضة.
لو قلنا مثلا أن النهضة قد تعلمت منذ تأسيسها إلى الآن الكثير فليس معنى هذا أن الغنوشي هو مصدر هذه التعلمات لوحده ولكن معناه أنه كان رائدا في بناء قدرة التعلم مع أنه لم يشارك إلا لمما في التقييمات التي أجريت داخل النهضة.
لنتناول أركان هذه المدرسة بإيجاز.
1- اختيارات ثقافية أساسية توجه نحو النجاعة والفاعلية وتبني حس المسؤولية الحركية وتجعل النجاح والفشل معيارا لمدى صحة التوجهات الكبرى في منهج التغيير الاجتماعي وإدارة الصراع السياسي
- من هذه الاختيارات الثقافية الأساسية التمييز الصارم بين الدين والتدين، فالدين وحي مطلق الكمال من الله لا تسري عليه مفاهيم النجاح والفشل، وأما التدين فقراءة المسلم لدينه وترجمته العملية لهذه القراءة، القراءة التي تزيد وتنقص جودة والتي تحمل في أحشائها مصيرها وتنطوي على نجاحها أو فشلها. لا شك أن التحكم الكامل في النتائج والمآلات متعذر في التغيير الاجتماعي والسياسي، ولكن لا شك أيضا أن التهوين منها عنوان من عناوين الفشل.
- ومن هذه الاختيارات الثقافية الأساسية المنزلة التي ينزلها حسن التفاعل مع الواقع في الوعي الإصلاحي لحركة النهضة، في حسن أو سوء التفاعل هذا ينعقد مصير الفكرة الإصلاحية من عدة وجوه: فالفكرة الإصلاحية تزداد نجاحا بقدر استجابتها لاحتياجات الواقع ومطالبه، بل أن الطلب هو صيغة المثول التاريخي للفكرة (لا نعي من الفكرة وعيا ملموسا إلا ما تخوله قراءتنا لاحتياجات الواقع). والواقع أيضا يمثل بالنسبة لإرادة التغيير كإكراهات يتعين التخطيط الجيد لمغالبتها وكفرص يتعين اغتنامها، أي بتعبير موجز كخيوط للفعل يتعين التقاطها، وخاصية الإنسان هي أنه الكائن القادر على الاضطلاع بعبء الوضعية التاريخية مهما كان عسرها. وأخيرا فان قانون الإصلاح يتخصص ويتغير بانتقالنا من مجال للفعل إلى آخر ولا يوجد مفتاح واحد لكل أبواب الإصلاح رغم تداخل مجالاته، وهو ما يفضي إلى فكرة التخصص ومنح إدارة الصراع وتدبير الشأن السياسي الخصوصية التي يستحق.
2- مفاتيح كبرى للوعي التاريخي أي لفهم العصر وتياراته الغلابة ومسالك التأثير فيه
- من هذه المفاتيح اختيار الحرية بابا للمستقبل والديمقراطية نهجا للإصلاح السياسي ولاسترداد الشعب لأسلابه وسيادته على ممكناته. لم يكن الغنوشي أول من ألف في الديمقراطية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر فقد سبقه رواد كبار ولكنه ساهم من موقع متقدم في البحث التفصيلي لتفرعات هذه الفكرة وفي رفع التحفظات داخل الحركات الإسلامية الوسطية عليها وفي مواجهة أعبائها وأثقالها في الممارسة والتطبيق عقب الثورة ببوصلة سليمة كما سترى لاحقا.
- ومنها توسيع طاقة استيعاب الفكرة الإسلامية لمنجزات الحداثة، الحداثة هي العنوان الكلي لتجربة الإنسان الغربي الحديث والمعاصر بحلوها ومرها ولقصة انتزاعه لمقود الحضارة. في مرحلة تأسيس النهضة وإثباتها لوجودها غلب نقد التغريب والاستلاب والهزيمة الحضاريين والمظاهر السلبية للحداثة، وفي مرحلة النمو والتوسع غلب على حركة النهضة الاقتباس النقدي لمظاهر نجاح الحداثة مميزة في ذلك بين الخصوصي والكوني في هذه التجربة الحضارية. النهضة منطبعة في ذلك بخاصية المجتمع التونسي المتوسطي المنفتح ولا شك، غير أن تعميق النظر في الحداثة اقتصر على الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية وبدرجة أقل دور المرأة في المجتمع، وأما ما سوى ذلك فظل موسوما بالتفاعل العملي مع النسخة البورقيبية للتحديث، ولا شك أن النهضة تحبل بإمكانات جدية للقراءة الأشمل والأجود للحداثة وللتجديد الحضاري.
3- القدرة على التعلم الدائم
- قدرة الإنسان على القراءة والتعلم ذات منزلة وخطورة استثنائية في الوحي، فهي الجواب الذي قدمه الله سبحانه لتساؤل الملائكة عن إفساده – أي الإنسان – في الأرض، وهي الخاصية الكبرى للنوع الإنساني كما ترد في أول سورة نزلت من القرآن الكريم.
وخاصية حركة النهضة الكبرى هي أنها حركة تتعلم من أخطاءها (فهي ذات تقاليد دورية في النقد والتقييم)، من خيبات وانكسارات الزمن السياسي العربي (أهمية النخبة، ميزان القوى، الانقسامات المدمرة والعدو الداخلي...)، من تجارب الشعوب والأمم الأخرى (كما هو الشأن في الانتقال الديمقراطي مثلا) ومن مبادئ وقواعد الفكر الاستراتيجي في إدارة الوضعيات السياسية الصعبة والصراعات المهددة الخ...
من التعلمات الكبرى لحركة النهضة اعتماد الحرية بابا للمستقبل، ومن تعلمات العقل القيادي النهضاوي الكبرى القدرة على التفكير خارج الصندوق مرات عديدة ومن ذلك كسر أربعة أقفاص فولاذية للتفكير، أولها ما ورثناه من اليسار من القطيعة السياسية والتنظيمية مع الدساترة (الذين حكموا تونس من عام 1956 إلى قيام الثورة) وهو القفص الذي دفعونا داخله ولم يسجنوا أنفسهم فيه (كانوا يتقاسمون الأدوار، منهم من يعارض ومنهم من يتسلل إلى الحزب الحاكم ومواقع النفوذ)، ومنها ما وجدناه لدى حركات الإصلاح من تهوين للنتائج والمآلات (نحن مطالبون ببذل عناية لا بتحقيق غاية مع أن بذل العناية في منطق السنن يؤدي إلى تحقيق غاية)، ومنها قفص اليوتوبيا الدموية الجامحة الذي عادة ما يسجن الثورات ويتوهم القطع مع الماضي بتصفية رموزه، وأما القفص الأخير فهو النظرة التآمرية للعلاقات الدولية وتخيل أن العالم كله تحكمه المنظمات السرية ويشتغل ضد نهضة العرب والمسلمين وهي النظرة الحائلة دون وعي حقيقة هذه العلاقات ودون الاشتغال عليها بأدواتها، ومنها أهمية المجتمع المدني الدولي في مقاومة الاستبداد، ومنها أهمية الصورة والعلاقات الخارجية في تحصين التجربة الديمقراطية الخ...
لا شك أن مسار التعلم لا يزال مفتوحا وطويلا وأن القدرة على التطور والنجاح وامتلاك مفاتيح التأثير في العصر تنعقد في القدرة على التعلم.
4- القدرة على مواكبة الاحتياجات الوظيفية والاستراتيجية لمرحلة ما بعد الثورة
- شكلت مرحلة ما بعد الثورة اختبارا جديدا للمرونة العقلية للنهضة وذكائها السياسي ولقدرتها على التأقلم مع ضرورات وظيفية جديدة وعلى تحمل القسط الأوفر من أمانة إنجاح المسار الديمقراطي، وقد ارتطمت النهضة بشراسة العداء من طيف من المشهد السياسي وبحجم الإمكانات المرصودة من أطراف إقليمية ودولية لتدمير الربيع العربي وخاصة بعد الانقلاب في مصر.
- كان على النهضة أن تتشكل كقوة عقلنة سياسية لمشهد سياسي سائل فيه أسباب للتعافي وفيه قابليات حقيقية للارتكاس والتعفن، مشهد مشحون بالانفعالات السلبية وضعف الثقة بين أطرافه وبأشكال العنف الرمزي وهي كلها مرتكزات للنفوذ الأجنبي وللدول المعادية للربيع العربي.
العقلنة هي العثور على الطريق الأقصر مسافة، الأقل كلفة والأضمن نتائجا نحو بناء دولة ديمقراطية قوية، منيعة، غنية وعادلة والاهتداء بتجارب الأمم ودروس التاريخ في ذلك، العقلنة هي العثور على مسالك العقل في التاريخ، وهذه المسالك بالنسبة للانتقال الديمقراطي وبناء الديمقراطية معايير مستقرة اليوم نحتتها تجارب الأمم ودروس التاريخ، لسنا من يصنع العجلة من الصفر ولكننا مطالبون بوعي وتمثل الرصيد الإنساني في هذا الباب والإضافة إليه.
الديمقراطية الناجحة القوية كما هو معروف في العلوم السياسية مركب من مبادئ أو عناصر ثلاثة: أولها قدرة السلطة التنفيذية على الحكم، بمعنى تمكين من منحه الصندوق الفوز من ممارسة صلاحياته في الحكم كاملة.
العنصر الثاني هو سلطة القانون أي أنه لا أحد فوق سلطة القانون، وسلطة القانون تتضمن فصل السلط وحماية الحقوق الأساسية والحريات العامة.
وأما العنصر الثالث والأخير فالمسؤولية السياسية أمام الهيئات الرقابية وأمام الرأي العام والناخب، بمعنى مارس صلاحياتك في الحكم كاملة وتحمل مسؤولية قراراتك وأفعالك سواء كانت لك أو عليك.
والمعروف أن الديمقراطيات العريقة لم تصل إلى مراحل الاستقرار والقوة إلا بعد آماد طويلة من الاضطراب السياسي تختلف حدة ومدة من بلد إلى آخر.
- لو عرضنا السلوك السياسي للنهضة بعد الثورة على تاريخ الديمقراطيات ومعايير العقلنة السياسية كما تبلورت فيه لكانت الحصيلة محترمة جدا، قدمت النهضة نفسها للعالم كقوة ضامنة للمسار الديمقراطي، قادرة على تحمل أثقاله وارتداداته الزلزالية، قوة عاقلة مستوعبة لامتحانات الديمقراطيات ودروسها ومستوفية لخصائص الطليعة الديمقراطية ولشروط العقلنة السياسية.
- التشكل كقوة عقلنة سياسية يفترض مستوى عال من الوعي بتاريخ الديمقراطيات العريقة وكيف خرجت من الضعف إلى القوة، وبتجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة أو بتعبير آخر النظر بعين التاريخ، الاختيار الديمقراطي يعني أننا لسنا بدعا من الأمم التي سبقتنا في ذلك وأننا مطالبون باكتساب المعرفة الثمينة بأسباب نجاح الديمقراطية في البلدان التي نجحت فيها، كل المشاكل التي شهدتها ديمقراطيتنا الناشئة (الصراع على حافة الهاوية – التعفين السياسي – تهديدات الفوضى والشعبوية والانقلاب – العنف الرمزي والدعاية المظللة – التدخل الأجنبي...) عاشتها شعوب أخرى وتوفرت فيها أرصدة كبيرة من الخبرة، مع مراعاة الفوارق بطبيعة الحال.
- خيارات النهضة في كل المشاكل التي عاشتها الديمقراطية التونسية الناشئة يشهد لها تاريخ العقلنة السياسية وتجارب الانتقال الديمقراطي (التعامل مع الذاكرة الجريحة لمرحلة الاستبداد بمنظومة العدالة الانتقالية – امتلاك قوة تحمل توترات الشرعية والاضطلاع بالمظاهر السلبية للحرية في ديمقراطية ناشئة – بناء مجال عام أو اطار قانوني وقيمي للمناقشة العامة والنهضة دعت منذ بداية الثمانينات إلى الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي والى تخليق المناقشة العامة وظل هذا من ثوابتها إلى اليوم – اختيار التوافق في إدارة مرحلة بالغة التعقيد حتى أن اختلفت قياداتها في تنزيل وإدارة هذا الخيار – العمل على ترسيخ ثقافة الاعتراف الشامل للجميع بالجميع واعتبار محاكمة النوايا مسلكا سياسيا إجراميا ومعالجة التهم الكيدية باللجوء للقضاء أي للحارس القانوني للديمقراطية من نواقضها...). العقلنة في كل المحاور الآنفة صراع مع لغة وتعبيرات اللاعقل، وفي جميع محاور الصراع لم تخطئ النهضة الاختيارات الصحيحة، قد نختلف في مدى نجاعة إدارة هذا الاختيار أو ذاك ولكن أصل الاختيار يظل سليما إذا عرضناه على تاريخ الديمقراطية.
- تركزت استراتيجية الحركة المضادة للثورة من اليوم الأول على شل قدرة الحكومات التي تعاقبت منذ 2011 وخاصة حكومة الترويكا على النجاح الاقتصادي وعلى سلب الثورة شرعية الإنجاز، على الصناعة الدعائية للفشل وتمهيد الطريق للشعبوية، على تحويل النهضة إلى ملف أمني (تهم الاغتيالات وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر والجهاز الخاص)، على العودة إلى الاستقطاب السياسي الثنائي الحاد (النهضة في مواجهة بقية الطيف السياسي)، على قطع تحالفات الثورة وشرايين إمدادها (تركيا، قطر، ليبيا...)، على الحرب الشرسة على كل مظاهر تعافي مؤسسات الدولة وخاصة الأمنية والقضائية و على توجيه الغضب الشعبي من قصور الثورة عن تحقيق حد مقول من التطلعات الاقتصادية والاجتماعية نحو حركة النهضة وتحميلها وحدها مسؤولية المرحلة مع أن مشاركتها في الحكم منذ 2013 كانت رمزية وبغاية تأمين المسار الديمقراطي.
- في المقابل حرصت النهضة على تقديم نفسها للتونسيين وللعالم كقوة عقلنة للمشهد السياسي التونسي، قادرة على تحمل أثقاله وارتداداته الزلزالية، قوة عاقلة مستوعبة للامتحانات التي مرت بها الديمقراطيات ولدروسها، ضامنة لنجاح الانتقال الديمقراطي وقادرة على قطع خط الرجعة على الاستبداد.
- توزعت خطة النهضة لأداء الدور الآنف على محورين كبيرين: الأول، إعادة هندسة المشهد السياسي بتمكين الغربال السياسي للمناقشة العامة والحقل العام والانتخابات من الاشتغال السليم، بالتقريب من منطقة الوسط وترسيخ ثقافة الاعتراف المتبادل وتنمية المشتركات والإدارة التوافقية للمرحلة السياسية.
- و أما المحور الثاني فهو قطع خط الرجعة على الاستبداد وتحصين الديمقراطية الناشئة ضد الإلغاء عن طريق الاشتغال على أربعة محاور: أولها إرساء المؤسسات الضامنة لاستقلالية القضاء وأدائه لدوره في حماية المسار الديمقراطي وتأسيس الهيئات الدستورية المستقلة، وقد حققت في ذلك نجاحات نسبية (لم يقع إرساء المحكمة الدستورية، لعبت هيئة الاتصال السمعي البصري أدوار مضادة للثورة، أدت هيئة الانتخابات وظائفها بمهنية ظاهرة، يؤدي المجلس الأعلى للقضاء دورا مشرفا في مقاومة الانقلاب الخ...)، وثانيها العدالة الانتقالية وهي عدالة رمزية تهدف إلى علاج جروح الذاكرة وجبر الأضرار للضحايا وإحلال السلام في العلاقات السياسية وطي صفحة الماضي والتوجه المعافى نحو المستقبل، وقد تعرض هذا الملف لإفساد كبير وحقق مع ذلك نجاحات معتبرة، وثالثها الاشتغال على الصورة الخارجية للنهضة (كقوة ضامنة) للديمقراطية التونسية الناشئة (كديمقراطية مأمونة مستجيبة للمعايير المستقرة للعقلنة السياسية )، وأما المحور الرابع والأخير فهو محور الزمن، فوجه هام من معركة الثورة ضد أعدائها كان معركة صراع على الوقت، وقد حرصت النهضة على إحداث فجوة زمنية ترسخ فيها ثقافة الديمقراطية لدى المواطنين وتتمكن فيها مؤسسات الدولة من التعافي ومن مواكبة الزمن السياسي الجديد، وقد مكنت تونس من تنفس الحرية لمدة عشرية ثمينة كان لها أثر كبير في التحصن الجزئي لديمقراطيتنا ضد الإلغاء (الانقلاب لم يستطع الجام الناس بالخوف ولا تزييف الوعي لدى قطاع واسع من النخبة ولا التسويق لصورته دوليا أو الحصول على دعم يذكر...).
- هل نجحت النهضة في مواكبة الضرورات الوظيفية للمرحلة السياسية لما بعد الثورة؟ حققت نجاحا منقوصا ومعتبرا في الآن ذاته، فالانقلاب حين جاء ولد مختنقا يحمل في أحشائه أسباب فنائه، وإدارة النهضة والقوى الديمقراطية التونسية للمعركة ضده إدارة ذكية وعقلانية تحقق نجاحات تراكمية معتبرة، والمشهد السياسي الذي أثرت فيه قوى التعفين السياسي يعود للتعافي، والغضب الشعبي يتحول بوتيرة سريعة نحو الوجهة الصحيحة، والنهضة تستعيد ألقها النضالي وقسما هاما من قاعدتها الغاضبة.
- النهضة اليوم أمام تعلمات جديدة تفرضها عشرية الثورة، التعلم من صعوبات وسلبيات تجربة التوافق: كيف نحول التوافق من تجربة تبعد مخاوف ولا تمنح أملا ومن إعاقة للإنجاز إلى شرط للإنجاز؟ التحول النوعي في إدارة التوافق؟ كيف نكون تحالفات موثوقة، متينة ومستقرة على برنامج واضح؟ كيف نصنع كتلة وطنية واسعة للمواجهة القانونية والسياسية لقوى التعفين السياسي؟ كيف نستعيد ونقوي رأسمالنا الرمزي؟ وبتعبير جامع كيف ننقل تجربتنا الديمقراطية من الضعف إلى القوة؟
- بقي أخيرا أن أقول بأن الاختيارات الكلية لحركة النهضة ومرونتها العقلية تسمح بالإدارة العقلانية الناجحة للمعركة مع الانقلاب والحركة المضادة للثورة وأن اختلاف عدد من أبناء النهضة وقياداتها مع الشيخ راشد اختلاف في الغالب في إدارة الاختيارات الكبرى الآنفة أكثر مما هو اختلاف حولها وأن المؤشرات قوية على أن عمر الانقلاب قصير وأن الديمقراطية التونسية ستكون أقوى بعده إن شاء الله وأن المشهد السياسي التونسي وعلى رأسه النهضة مطالب بعرض سياسي أفضل أمام العالم وأن التحدي الأكبر أمام الثورة بعد عبور هذه العاصفة هو الجمع بين الشرعيتين: شرعية الصندوق وشرعية الإقلاع التنموي والنجاح الاقتصادي، لا تزال أمام النهضة اختبارات عسيرة لأسسها الفكرية ومنهجها العملي...