search

"الدولة" بيت الداء وتغييرها هو الدواء

نشأت حركات المعارضة في تونس، كما في معظم الأقطار العربية، وهي تعتبر الدولة خصمها الحقيقي وخصم الشعب الحقيقي، باعتبارها دولة تابعة مثلت الامتداد الطبيعي للاستعمار المباشر. يمكن أن نلحظ أن مفهوم الدولة ككيان سياسي والفلسفة التي قامت عليها، وحجم وتعقد سلطتها، لم يكن بالوضوح الكافي، ذلك أنها اختزلت في مخيال المعارضة في الوجوه التي قادتها، أكثر منها في بنيتها الداخلية، كجهاز احتكار للسلطة وتغول تسلطي يتحكم في مفاصل المجتمع برمته، من الطفل الذي "تصنعه" في روضتها ومدرستها، إلى الشاب الذي تقولبه في جامعاتها ونواديها وثقافتها وإعلامها، إلى الكهل الذي تضبطه في إداراتها ومصانعها ومنظماتها "القومية". ومن يشذ عن ذلك فسجونها جاهزة بل ومقاصلها ورصاصها في الشوارع يأتي بمثابة آخر الدواء الكي.

لكن الدولة حتى تضمن "استقرارها"، تعرف أنه إلى جانب وسائل الردع لا بد لها من وسائل الاسترضاء، والوسائل التي تضمن استمرار مصالح من وراءها. فتقدم خدماتها في شكل إنجازات للوطن والمواطن، رغم أنها من الناحية البنيوية إنجازات تحتاجها القوى التي تتحكم في خيرات البلاد، من أجل ضمان استمرار نهبها، واستمرار توزيع المنافع وتكثيرها بين قوى الداخل والخارج.

تلك هي الوظيفة الجوهرية لدولة الاستعمار غير المباشر ، لا يمكن أن يذهل عنها من يعرف طبيعة الدولة مهما تعقدت بنيتها ومهما ضللت الناظر بحيلها.

هذه الدولة ونعني بذلك "دولة وستفاليا" كجهاز حديث للتحكم والسيطرة والنهب والاستغلال، وكبنية سياسية قانونية وتنظيمية، هي التي تعد الإنجاز الأعظم لحضارة الغرب الحديثة. وإذا كانت لم تسلم من النقد العميق وأحيانا الجذري، فإن محاولات "إصلاحها" لم تلغ طبيعتها في التحكم والسيطرة إلا قليلا. ولا زال الجدل والنقد لها قائما لم ينقطع، وبعضه مرتبط بالبنية الثقافية والنفسية للغرب ذاته.

الملفت للإنتباه أن الدولة المعاصرة قد أنشأت لها "كلاب حراسة" لا تقل أهميتهم عن أولائك الماسكين بأدوات العنف المادي، من الجيوش وقوى الأمن وقوى الاستخبارات، وخاصة هذه الأخيرة التي استمرت تمارس بفعالية كل ما تصدت له منظومات الحقوق المدنية والسياسية لتحريمه وتجريمه. حيث لم تتوقف عن انتهاك كل ما له علاقة بالحرية الفردية والجماعية، وممارسة كل وسائل التضييق والمحاصرة والمنع والتصفية المعنوية والمادية التي تمارسها بدم بارد باسم "عقل الدولة". لعب "كلاب الحراسة" من المفكرين والمثقفينوالفنانين والإعلاميين دورا حيويا وجذريا في التمكين النفسي والفكري لشرعيتها ومشروعيتها في عقول المواطنين، ومثلت سلاحا لا يقل أهمية عن غيره من الأسلحة لإخضاع الخصوم والمعارضين.

انطلاقا من حالة العداء التي نشأت بين حركات المعارضة والدولة، نشأت التنظيرات والأفكار التي انحازت للمجتمع. وكل اتجاه إيديولوجي صاغها بأدواته ولغته، لكنها كانت تتفق جميعها على أن وظيفة الدولة هي خدمة المجتمع وليس التحكم فيه. وكان الهجوم لا يكاد يتوقف عن الدولة التابعة مقابل دولة السيادة الوطنية، والدولة القطرية مقابل دولة الوحدة، والدولة الاشتراكية أمام دولة الإقطاع أو الكومبرادور، والدولة الاسلامية مقابل دولة الكفر أو الجاهلية.

لكن الدولة وبتأثير من ممارساتها القمعية، ونجاحها في اختراق القوى المعارضة، ومع التحولات العالمية، خاصة مع صعود الليبرالية عالميا، والانكسار التدريجي للقوى الثورية فكرة وممارسة، استطاعت أن تجر المعارضة إلى ساحة "الواقعية السياسية" والتي لم تكن شيئا غير عملية ترويض لها وإدخالها "بيت الطاعة".

عندئذ بدأنا نتحدث عن "الدولة الوطنية" !

والذي حدث في الواقع، أن الدولة لم تغير من طبيعتها شيئا ولا من أدواتها شيئا ولا من تبعيتها شيئا، وإنما الذي تغير هي المعارضة بكل أطيافها، وآخرها المعارضة الاسلامية التي حاولت أن تطوع فكرها كي تجعل من القانونية والعلنية حقا وليس منة، وأنه لا ينقص من موقفها من الدولة، ولا يخشى منه أن يستدرجها إلى مربعها!

لم تكن الخلفية التكتيكية في سلوك المعارضة جميعها لتغيب عن الدولة وأجهزتها، لذلك واصل "عقل الدولة" يتعامل مع المعارضة وفق خياراته الكبرى: الإخضاع أو الإقصاء بقطع النظر عن المقاربات التكتيكية في تنفيذ تلك الخيارات مع هذا التيار السياسي أو ذاك و خلال هذه المرحلة أو تلك.

لذلك فإن أهم نجاح للدولة بعد سقوط بن علي هو أنها استطاعت أن تفرض خيار "استمرارية الدولة" على التأسيس الثوري، وأن تنجح بسرعة في تشتيت قوى الثورة، وأن تضمن أن تتحكم في المرحلة الانتقالية من خلال حكومة الباجي قائد السبسي الإبن الشرعي لها، ومن خلال هيئة عياض بن عاشور الذي هو أيضا ابنها أصلا وفرعا.

ولأن قوى الثورة لم تستسلم، وبقيت تحاول استعادة مطالب الثورة، ووصلت حد سن دستور الثورة بأهم تحول جذري فيه ممثلا في النظام البرلماني والحكم المحلي، فقد استمر "عقل الدولة" يقوم بدوره "التخريبي" حتى تحقق له ما يريد بانقلاب 25 جويلية.

يمكن لك أن تغرق في تفاصيل الوقائع والقرارات، التي قد تجعلك تشكك في ما عرضته، لكنك إذا نزعت كل تلك الظلال والغشاوات، وأرجعت الفروع إلى أصولها، والأحداث إلى بواعثها، والتكتيكات إلى استراتيجياتها، ستجد نفسك أمام الحقيقة العارية: الدولة بيت الداء.

وما لم يتم نسف الأسس الدستورية والقانونية والتنظيمية للدولة وارتباطاتها الخارجية والداخلية فلن تبلغ الثورة أهدافها.

هل يمكن أن تصلح الدولة من داخلها؟ ذلك هو الطعم الذي ابتلعناه زمنا وغصصنا به ...

تاريخ أول نشر 2025/11/5