حرصت منذ حصل الرد الايراني على متابعة الحدث وارتداداته وخاصة وجهات النظر التحليلية المختلفة، وشاركت بعضها في جداري تعميما للفائدة وتوثيقا لها. لا بل إنني على عادتي في بعض الأحداث الكبرى أرجع إلى التاريخ أتصفحه من خلال كتاب أو أكثر يمكن أن يساعد على استحضار خبرة التاريخ لتعميق زاوية النظر. وقد اخترت كتاب محمد المختار الشنقيطي: أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية. ورغم تركيزه على العلاقات السنية الشيعية، فإن الموضوع الأكبر الذي عالج من خلاله العلاقات، له ارتباط لا يخفى بالحدث الذي نعيشه ألا وهو بيت المقدس. والكتاب رسالة دكتوراه من جامعة أمريكية مرموقة وبإشراف وتحكيم أساتذة متخصصين.
لا بد من الإشارة أيضا إلى أنني انتقدت الموقف التركي مبكرا وكتبت نصا ربما اعتبره البعض "قاسيا" لا زلت متمسكا به.
في السياسة وبقطع النظر عن رغبات الأشخاص ونواياهم وسعيهم، لا وجود لفعل يقرأ من وجه واحد، ولا وجود لربح صافي ولا لخسارة صافية، وخاصة في زمننا هذا الذي تعقدت فيه العلاقات وزوايا التأثير.
وتبعا لذلك فإن التحاليل والمواقف ترتبط في الغالب ولغايات منهجية بزوايا النظر للموضوع، ويصعب جدا أن تظفر بتحليل شامل ومتكامل مهما كانت رغبة الكاتب وقدراته. مع العلم وأن ذلك من الناحية المنهجية ليس ضروريا إذا ما بدا للكاتب أن زاوية النظر التي يتطرق منها للموضوع هي المهيمنة أو المتحكمة في مسار الحدث أو أنها تؤدي إلى السيناريو الأكثر احتمالية في تقديره.
سأركز تقديم وجهة نظري من خلال 4 زوايا هي التالية:
من زاوية الأخلاق:
الأخلاق من أي باب نظرت إليها، سواء من بابها البسيط المتبادر والمتداول أم في عمقها القيمي، تقول أن الرد الإيراني استحضر غزة استحضارا لا يختلف عن استحضار كل "العاجزين" الذين برروا لأنفسهم عجزهم. وهو عجز قد يحولهم إلى خانة التواطئ بالنظر إلى حجم استفراغ الجهد من أجل منع الإبادة التي تحصل لغزة. لم تختلف إيران في ذلك عن غيرها، ولا يبدو أنها استحضرت موضوع غزة في حساب رد فعلها، أو استشعرت أهمية استعماله من الناحية الأخلاقية أمام عمليات الإبادة التي تحصل على المباشر بشكل لم يحصل مثله في التاريخ.
من زاوية المبادئ:
مبادئ الحق والعدل والحرية الكونية، ومبادي الاسلام التي تحتوي ذلك وزيادة من واجب نصرة المظلوم أي كان فما بالك إن كان أخ لك في الدين!
المبادئ المتعلقة بالحق الفلسطيني وبالمسجد الأقصى، تلك المبادئ التي تهدر باسم "الصبر الاستراتيجي" خطأ وتضليلا. ذلك أن الصبر الاستراتيجي يكون مفهوما في خط الهجوم وفي خط مدافعة الخطر غير المباشر، لا أمام واقعة الاستئصال الدموي المباشر للأطفال والنساء والشيوخ، وممارسة الابادة الجماعية بشكل سافر ومرعب يوميا وعلى المباشر.
كل الذين يدعون التمسك بالمبادئ ثم يبررون قعودهم عن نصرة غزة، هم عند التحقيق يدينون ما قامت به حماس والقسام والفصائل، وسيدينون غدا بوجوه عدة صمود أهل غزة وقبولهم بالإبادة الجماعية التي وقعت عليهم، وإن كانوا اليوم يتظاهرون بأنهم ضد الذين يدينون حماس والفلسطينيين. لأن الموضوع أبعد من مجرد الكلام وإنما الفعل هو المصداق الحقيقي لكل الدعاوي.
للأسف إيران لم يختلف رد فعلها من هذه الزاوية عن مجاميع "بائعي الكلام" دولا ونخبا وشعوبا. وفي وضع قضية غزة في الاعتبار عند دراسة ردها على الاعتداء الصهيوني، لا يبدو أن إيران قد فعلت شيئا ذا بال. وقد تتبعت بقدر وسعي الأخبار والتحاليل وما رشح من حديث عن المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين إيران وأمريكا.
من زاوية السياسة:
لدى ايران كقوة اقليمية وكدولة عضو في منظمة التعاون الاسلامي، وكقوة لها علاقات استراتيجية وسياسية واقتصادية مؤثرة وفاعلة، ما يجعلها تستثمر ما حصل من أجل ممارسة ضغط، والحصول على مساندة جهودها في التصدي لحملة الابادة التي تمارس يوميا في غزة بما يمكن من تخفيف الضغط على غزة في الحد الأدنى. لكن للأسف لا يبدو أنها فعلت شيئا من ذلك معتبرا.
من زاوية الاسترتيجية:
يبدو رد الفعل الايراني وكأن استراتيجيته لا تأخذ بعين الاعتبار ما يحصل في غزة، إلا من جهة تكثيف رأس مال رمزي عام، بأنها هي وأذرعها ساندوا غزة، وبما يشي بأنه لولاها لما استطاعت حماس أن تفعل ما فعلته. لكنها غير معنية حاليا بالتقدم أكثر، لأن الصبر الاستراتيجي يقول لها فلسطين يجب أن تبقى مؤجلة لحين تكونين أنت يا إيران في وضع قيادة حركة التحرير والتمكن منه. هل تلام على ذلك؟ لا ... هي تدان لا فقط تلام ... تدان كما غيرها يدان ... من هذه الزاوية لا وجه للاختلاف بين الموقف التركي والموقف الايراني. لنجرب أن تمس هذه الدول في مصالحها المباشرة ... هل ستسكت ؟ لا ابدا ... وردها الذي قامت به دليل على ذلك ... وهنا بالضبط يجب أن تدان هي وغيرها بمنطق الأخلاق وبمنطق المبادئ وبمنطق السياسة وبمنطق الاستراتيجية ... وبمنطق الواجب الشرعي بالنسبة لدولة اسلامية ولدولة دينية يرأسها "نائب صاحب الزمان الإمام المهدي عجل الله فرجه".
سيقول الكثيرون هذا كلام عاطفي وكلام ثورجيين وكلام من لا يفهمون في السياسة، ومنهم من لهم أقلام متصدرة وقدرة على تحويل السواد إلى بياض ناصع وجعل الخمر الحرام عسل مصفى ... ليكن ... أحترم رأي الجميع ... لكنني هكذا أرى الحدث في أصوله وتداعياته .. ولا أنكر أنني أراه بكل حواسي وبعقلي وقلبي أيضا ... لا أنكر ذلك أبدا.
كتب الشنقيطي وتكلم عن شروط نجاح المعارك الكبرى واختيار اللحظة المناسبة ولخصها في ثلاث: وحدة الكلمة والحس الاستراتيجي والذكاء السياقي. ورغم أن تطبيق هذه الشروط على 7 أكتوبر يبدو فيها ما يتحفظ عليه من خلال تحليله، وخاصة في علاقة بمحصول علم استراتيجيا الحرب كما قدمها. إلا أن قوة الحدث من حيث التنفيذ، وما يقتضيه الموقف في لحظات المواجهة من ضرورة الدعم والاسناد، جعلت الشنقيطي ينخرط كغيره في واجب المناصرة وتحشيد الدعم. ولأن التاريخ أعطانا أيضا أمثلة على أحداث جسام غيرت وجه التاريخ ولم يكن يبدو أنها استوفت الشروط التي تحدث عنها. ولأننا نؤمن أيضا بأن أقدار الله ومشيئته قد تجعل "أحداثا مجنونة" مقدمة لتحول استراتيجي. هي مجنونة بالنسبة لنا لكنها في عمقها ليست كذلك لكن أسبابها خفيت عنا.
كثيرون يستهجنون الحديث عن الجانب المذهبي\الطائفي، وخاصة من خلال استدعائه بالصورة الصراعية التكفيرية المتبادلة. وأنا بطبيعة الحال أشاركهم الاستهجان. وقد تتبعت من خلال كتاب الشنقيطي الذي لا يخفي ما لصاحبه من نزوع البحث عما ينزع فتيل الاشتعال بين هذين الجناحين في الامة بقطع النظر عن اختلاف أوزانهما البشرية، ووجدت أن التاريخ وتاريخ الحروب الصليبية - وعلى عكس الفكرة المتداولة السوداء القاتمة عند أهل السنة حول دور الشيعة في الحروب الصليبية - لم يعدم رغم الدور السلبي أدوارا إيجابية خدمت معركة الأمة مع الصليبيين من الإسماعيلية إلى الإمامية وحتى إلى النزارية المعروفة بالحشاشين. وقد حتمت أدوارهم الايجابية السياقات السياسية والحس الاستراتيجي وحتى وحدة الامة بالنسبة لبعضهم.
أقول هذا ودون أن نستغرب من يرى في الموقف الايراني نزوعا مذهبيا وحسا استراتيجيا ممزوجا ينوستالجيا تاريخية وأنينا ميتولوجيا، يعمق ترتيب الأولويات لاستعادة فترة زمنية تكاد تربعت فيها الفرق الشيعية على كرسي السيادة الاسلامية خلال القرن الرابع الهجري حتى لقب بالقرن الشيعي، خاصة وهي ترى أن "هلالها الشيعي" يعد أيامه ولا عجب أن تمني النفس بأن يصبح بدرا كاملا.
هذا الحس الاستراتيجي الإيراني المبني على الصبر الاستراتيجي مع العدو الأجنبي و"الدم الاستراتيجي" مع العدو الداخلي، سواء أريق على يديها أو أيدي أذرعها أو أيدي حلفائها، أو أيدي أعدائها الخارجيين قد يكون في تقديرها شر لا بد منه.
ومع ذلك فأنا لست مع الشحن الطائفي، ولست مع تجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، وأؤمن أن في الشيعة أجنحة لديها من الاستعداد لتجاوز جراحات الماضي الكثير، وأن الفضاء الشيعي يشهد محاولات "تجاوز" معرفي وسياسي للتقليد الشيعي بما فيه الامامي الذي يتصدر إيران الآن. وأن هناك عملية "تحرر" وإن كانت بطيئة شأنها شأن ما يحصل في العالم السني، وأن دورنا هو تعميق تأثيرها وتوسيع رقعتها من دون تبسيط ولا مثاليات.
أختم بأن كل ما قلته حول الرد الايراني لا يعطي أي شرعية لردود الفعل الاسلامية والعربية المقابلة . فالجميع وعلى مختلف المستويات كانوا دون مستوى الحدث، بل إنهم بردود فعلهم المتواطئة في عمقها مثلوا ولا يزالون طعنة في ظهر المقاومة وغزة وفلسطين. وكل ما أخشاه - وأرجو الله صادقا أن يخيب بعض ظني - أن لا نكتب يوما أو يكتب غيرنا في وقت ما عن "غزة الشهيدة".
تاريخ أول نشر 18\4\2024