وافت المنية اليوم الأديب الألباني الكبير إسماعيل كاداريه عن عمر ناهز 88 عاما إثر سكتة قلبية ألمت به صباح اليوم الإثنين 1 جويلية ( يوليو) 2024 .
لا يجادل أحد في قيمة إسماعيل كاداريه الأدبية وخاصة في مجال الرواية، يدل على ذلك شهرة رواياته وترجمتها بكل لغات العالم الحية، والجوائز العالمية التي حصدها، والأوسمة التي تحصل عليها، وترشحه أكثر من 15 مرة لنيل جائزة نوبل للآداب.
لكن الوجه الآخر لكاداريه الذي لا يعلمه الكثير من الناس هو ما سأعرضه في الأسطر التالية.
إلى حدود شتاء سنة 1990 كان إسماعيل كاداريه يعتبر "الروائي الأول " لحزب العمل (الحزب الشيوعي) الألباني، لذلك كان يتمتع بمكانة خاصة مميزة في الحزب، وكان يوظف موهبته الأدبية في التمكين لرؤية الحزب الشيوعي الألباني ولرؤية الرفيق القائد أنور خوجة.
كان مهابا لدرجة أنه أقدم على التنكيل وتدمير حياة شاب تجرأ على ربط علاقة بابنته، متحصنا بمكانته في الحزب، التي كانت تحميه من أي مساءلة، وتطلق يديه في التصرف وفق رغباته، ولو كانت على حساب المبادئ الشيوعية التي ينظر ويروج لها، فقط لأن ذلك الشاب ينحدر من وسط اجتماعي لا يناسب الوسط الذي ينتمي إليه كاداريه.
وفي حين تمت حملات لملاحقة الأدباء والفنانين الذين اعتبر إنتاجهم يدعو للقيم البرجوازية المعادية للقيم الشيوعية وتم تصفية الكثير منهم إعداما أو سجنا أو تغريبا عن محل سكناهم ونفيهم في القرى والارياف البعيدة، كان كاداريه حريصا على أن يظهر بصورة الأديب الشيوعي الأنوري (نسبة لأنور خوجة) الحق ولم ترتفع له ولو إشارة رمزية نقدية لما يحصل.
وفي الوقت الذي تجرأ فيه شاعر ألباني على الجهر بمعاداته للنظام سنة 1990 مما كلفه قطع رقبته، كان كاداريه قد فر إلى فرنسا مستغلا المكانة التي يحظى بها، والتي كانت تسمح له بالتنقل خارج ألبانيا للمشاركة في الملتقيات والفعاليات الأدبية.
وفي مقابل الاضطهاد السياسي والفكري وكبت الحريات والسجون والإعدامات والملاحقات للمعارضين وأقاربهم كان كاداريه شاهد الزور الذي يبيض ممارسات النظام الشيوعي ويسوق لأوهامه وإلحاده.
عندما أدرك إسماعيل بحسه وذكائه أن الحزب الذي عاش وترعرع وأبدع أدبه تحت حمايته 45 عاما، قد بدأ نجمه بالأفول، وأن رياح التغيير العاتية قادمة خاصة بعد سقوط جدار برلين، اقتنص الفرصة بعد انطلاق تحركات منذرة بالتغيير صيف سنة 90، وفر لاجئا لفرنسا، أين أعلن من هناك معارضته وتنديده بالحزب الذي كان ابنه المدلل حتى لحظة فراره.
وجد اسماعيل كاداريه في فرنسا الملاذ الآمن. ومعلوم أن نخبة الحزب الشيوعي الألباني كانت أغلبها فرانكفونية الثقافة، باعتبار أن أنور خوجة نفسه كان فرانكفونيا، وقد أبقى على علاقاته مع فرنسا التي كانت المكان المفضل للبعثات العلمية للتخصص الجامعي في مختلف التخصصات العلمية.
وفي فرنسا تحول كاداريه من أديب الحزب الشيوعي إلى داعية الليبرالية والتحرر الأنواري، والتنظير لكل ما يربط مصير ألبانيا المستقبلي بأروبا. وقد احتفت به فرنسا ومنحته عضوية أكاديمية العلوم السياسية والأخلاقية الفرنسية مدى الحياة كما أصبح لاحقًا ضابطًا في جوقة الشرف الفرنسية.
وكما كان في الماضي "متطرفا" في دعوته الشيوعية الأنورية، أصبح "متطرفا" في دعوته للأوربة، باعتبارها ليس فقط تجمعا سياسيا اقتصاديا بل باعتبارها قيما وحضارة وحتى دينا مسيحيا أضفى عليه كل المعاني الإيجابية ( رغم أنه من أسرة مسلمة).
لذلك واصل كاداريه رافعا لواء التهجم على الاسلام، مشوها تاريخ ألبانيا المسلم باعتباره لم يكن شيئا غير استعمار تركي تم بالحديد والنار وأرغم الألبان على ترك ديانتهم المسيحية تحت الإكراه.
لم يكن كاداريه يتوانى في استعمال كل ملكته الأدبية ومكانته داخل ألبانيا وخارجها من أجل المشاركة في تشويه ماضي ألبانيا المسلم والتخويف من أي علاقة ممكن أن تتم بين ألبانيا والبلاد العربية والاسلامية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن كاداريه لم يجد صعوبة كبيرة في الترويج لـ"رؤيته الجديدة"، لأنها لم تكن تحمل كل تلك الجدة، حيث أن القراءة الشيوعية الأنورية لماضي ألبانيا، بل وحتى قراءة رجال النهضة الألبانية أواخر القرن التاسع عشر، كانت قائمة على فكرة "الاستعمار التركي" وعلى أن "الاسلام" جاء به الاستعمار التركي لألبانيا، رغم أن ذلك مناف للحقائق التاريخية حيث أن الاسلام قد سبق دخوله إلى ألبانيا دخول الأتراك بما لا يقل عن أربع قرون.
بعد حوالي عشريتين من سقوط النظام الشيوعي في ألبانيا، وبعد "عودة الروح" للمجتمع الألباني رغم كل محاولات المحاصرة اندلعت "مواجهة فكرية" بين تيار "العودة للهوية" وبين تيار "الارتباط بأوروبا".
لم تكن مواجهة مخططا لها، وإنما كانت إفرازا طبيعيا ووجها من وجوه حركية المجتمع الألباني، ما كانت لتحصل لو تمت بوعي وتخطيط لأن سيف الوأد أو التجاهل النخبوي كان سيدفنها في مهدها.
لكن القدر قيض للمواجهة وجها آخر من وجوه النهضة الأدبية والفكرية الألبانية وعلما من أعلامها المعاصرة هو الناقد الكوسوفي رجب تشوسيا.
وفي حين خلع كاداريه جبة الشيوعية والاشتراكية وكل ما يمت لها، حافظ رجب تشوسيا على موقعه كيساري على المسافة النقدية بين الشيوعية والليبرالية. كما كان انتماؤه لكسوفا عاملا مؤثرا كي يرى الغرب من زاوية نقدية، وأن ينظر لتاريخه وحاضره من زاوية قضية بلده كوسوفا، التي تكافح من أجل استقلالها وتبحث عن انتمائها لألبانيا الحقيقية، لا ألبانيا التي اصطنعها الغرب على قطعة أرض لا تتجاوز ربع أو ثلث ألبانيا التاريخية.
كانت مواجهة كبرى فرضت سؤال الهوية تاريخا ومستقبلا، وفرضت على النخبة الانخراط في المواجهة بين علمين كبيرين.
وإذا كانت النخبة لدوافع إيديولوجية وسياسية أميل لرؤية اسماعيل كاداريه، إلا أنها لم تقدر على تجاهل رؤية رجب تشوسيا التي تقف على أرض صلبة من حقائق التاريخ والجيوبوليتيكا ويقظة الشعور الوطني بالمهانة التاريخية التي لحقت الألبان تمزيقا لوحدتهم، وسرقة لأراضيهم، واضطهادا بل وتصفية عرقية لهم في الأراضي التي تم اغتصابها منهم. ذلك الشعور الذي اشتعلت ناره في الطرف الشمالي من أرضهم في كوسوفا ثم في الشمال الشرقي من أرضهم في مقدونيا.
وقد زاد من ذلك الشعور ما لمسه الألبان خلال العشريتين من تجاهل أوروبا لمطالبهم في الارتباط بها.
ورغم أن النخبة الألبانية كانت تستميت في إظهار ولائها لأوروبا، إلا أن أوروبا لم تتخلص من نظرتها التاريخية لألبانيا، حيث تعتبرها بلدا ذو أغلبية مسلمة ليس من السهل المجازفة بإدخالها لـ"النادي المسيحي" حتى لو خرج أهلها من جلودهم.
أما أمريكا فقد كانت لا تتوانى كل مرة عندما تريد أن تبرهن على أنها لا تكن عداء للمسلمين عن ذكر ما قدمته لألبانيا وكوسوفا مما يشعل غيظ النخبة الألبانية التي تسعى إلى دفن هذه الحقيقة!
كان كاداريه يرقب التحول البطيئ ولكن الثابت للمجتمع الألباني، من خلال مظاهر عودة الوعي والممارسة الدينية الاسلامية، التي لم تكن تقل عن انتشار مظاهر السلوك الليبرالي. وفي حين تنفق على السلوك الليبرالي الأموال الطائلة ومنها أموال الدولة، وتفتح أبواب ألبانيا على مصراعيها لكل صاحب ملة ونحلة غربية، يتمدد السلوك الثقافي الاسلامي في كل مجالات المجتمع وطبقاته وفئاته العمرية ولا سيما بين الشباب والنساء.
منذ سنوات تصفحت عددا من مجلة معهد العالم العربي بباريس، فوجدت فيها حوارا مع إسماعيل كاداريه. وقد وجدتني أمام شخص آخر غير ذلك الذي أعرفه على صفحات الجرائد الألبانية! وجدت رجلا يتكلم بلغة رصينة وموضوعية يشيد فيها بدور الإسلام والثقافة الاسلامية.
ثم تذكرت أن كاداريه الذكي يعرف أنه ليس فقط لا يستطيع تسويق خطاب الكراهية الذي يبثه في ألبانيا، وإنما يعرف أنه سيفضح نفسه وسيجعلها مثار سخرية ليس فقط أمام المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين وإنما أمام الغربيين أنفسهم.
يرقد الآن كاداريه في بيته مسجى، وستقام له غدا جنازة وطنية، وسينتهي به المقام في مثواه الأخير، تاركا وراءه أعمالا أدبية لا يمارى في قيمتها الفنية، وفي نفس الوقت مواقف إيديولوجية كانت جلها إن لم تكن كلها رغم تناقضها الظاهري بين الحقبة الشيوعية والحقبة الليبرلية، في خط التنكر للهوية الألبانية والإكراه الإيديولوجي والمساهمة الفاعلة في تزييف التاريخ.
تاريخ أول نشر 2024/7/1